ويبرز من خلال تحليل المعطيات أن الشكايات شكلت الغالبية المطلقة من الملفات المعالجة، حيث بلغت 5755 شكاية، أي حوالي 72% من الإجمالي. وتركزت هذه التظلمات أساساً حول ثلاثة محاور كبرى تمثل 87% من المواضيع المثارة، وهي الإدارة العامة (2325 شكاية)، والمالية (1761)، والعقار (926). هذه النسب العالية تشير إلى عمق الاختلالات في هذه القطاعات، وإلى صعوبات مستمرة تواجه المواطن في الولوج العادل والمنصف إلى حقوقه.
ورغم الطابع الإحصائي الجاف لهذه الأرقام، إلا أنها تخفي وراءها قصصًا إنسانية تجسد حجم المعاناة الإدارية. من بينها حالة رشيد من فاس الذي انتظر أكثر من سنتين لربط منزله بشبكة الماء، أو لطيفة من آسفي التي ظلت بلا معاش بعد تقاعدها نتيجة فقدان ملفها. في مثل هذه الحالات، شكلت مؤسسة الوسيط قناة إنصاف بديلة أنقذت الموقف وأعادت التوازن إلى العلاقة المختلة بين الفرد والإدارة.
غير أن هذا الإقبال المتزايد وضع المؤسسة ذاتها تحت ضغط متنامٍ، حيث أشار التقرير إلى أن 76% من الملفات الجارية لا تزال معلقة، ما يطرح علامات استفهام حول قدرتها على الاستجابة السريعة والفعالة، في ظل محدودية مواردها البشرية واللوجستيكية. ورغم ذلك، واصلت المؤسسة جهودها في تطوير وسائل التواصل مع المواطنين، بما في ذلك البريد التقليدي، المنصة الإلكترونية "e-plainte"، تطبيق "واتساب"، والاستقبال المباشر. وقد سجلت المنصة الإلكترونية أعلى معدل استعمال بنسبة 35.8% من مجموع الشكايات، ما يعكس تزايد الاعتماد على التكنولوجيا في ممارسة الرقابة المواطنية والمطالبة بالحقوق.
كما أظهر التقرير طابعا فرديا واضحا في معظم الشكايات، حيث أن 83% منها تقدم بها أفراد وليس مؤسسات أو جمعيات، فيما لم تتعدَّ نسبة الشكايات المقدمة من طرف النساء 24.6%. هذا الرقم المتواضع يسلط الضوء على وجود حواجز نفسية أو ثقافية أو اجتماعية تحول دون انخراط النساء في التظلم المؤسسي، ويستدعي تعميق الوعي بأهمية العدالة الإدارية لدى جميع الفئات.
أما على مستوى الفعالية، فقد استطاعت المؤسسة أن تحقق نتائج ملموسة في بعض الملفات البارزة، مثل تدخلها في أزمة كليات الطب، حيث نجحت وساطتها في تهدئة الوضع وتفكيك التوتر بين وزارة التعليم العالي والطلبة. إلا أن المؤسسة، حسب تقريرها، لا ترغب في أن تظل مجرد جهاز للتدخل بعد تفاقم الأزمات، بل تطمح إلى لعب دور وقائي من خلال رصد الاختلالات قبل أن تتحول إلى صراعات مفتوحة، وهو ما يتطلب تجاوباً أكبر من الإدارات العمومية والجماعات الترابية، وتنسيقاً أعمق مع باقي الفاعلين المؤسساتيين.
ويقدّم التقرير عدة توصيات لتحسين العلاقة بين الإدارة والمواطن، أولها تحسين ظروف الاستقبال والتواصل داخل الإدارات، مع التركيز على الإنصات الفعّال واحترام كرامة المرتفق، خاصة في حالات الهشاشة الاجتماعية. كما دعا إلى تبسيط المساطر الإدارية التي ما تزال تعاني من التعقيد وكثرة الوثائق، واعتماد مقاربات قانونية حديثة لتسهيل الإجراءات وتسريعها. ومن بين أبرز المقترحات أيضاً، إقرار آجال ملزمة لردود الإدارات، كوسيلة لفرض الجدية ومحاسبة حالات الإهمال أو التأخر غير المبرر.
كما يوصي التقرير بتوسيع نطاق الوساطة الودية لتسوية النزاعات دون اللجوء إلى المحاكم، معتبراً أنها أداة فعالة لكنها ما تزال مهمشة وغير مفعّلة بالشكل الكافي. ويؤكد على ضرورة تأطيرها قانونيًا وتعزيز استخدامها كجزء من ثقافة التدبير الإداري اليومي.
في المحصلة، يكشف تقرير مؤسسة الوسيط لسنة 2024 عن واقع إداري لا يزال يرزح تحت أعباء البيروقراطية وضعف التواصل، لكنه في المقابل يعكس نضجًا مجتمعيًا متزايدًا في الدفاع عن الحقوق، وتزايد الثقة في الوساطة المؤسساتية كخيار بديل للتصعيد أو اليأس. إن مؤسسة الوسيط باتت تمثل، بوضوح، مرآة لتوترات صامتة بين المواطن والدولة، لكنها تظل أيضًا عنوانًا للأمل في بناء علاقة جديدة، أكثر إنسانية وإنصافًا، بين الطرفين