الرئيسية
خلال تقديم ميزانية القطاع لسنة 2026، كشفت وزيرة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، نعيمة بن يحيى، عن خطوط عريضة لمشروع هيكلي يتعلق بإعادة تنظيم ساعات العمل في الإدارة، بالتنسيق مع وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة.
الإصلاح ليس مجرد تعديل تقني، بل هو إعادة تقييم عميقة للثقافة الإدارية التقليدية، التي تعتمد بشكل كبير على الحضور الجسدي الصارم، وجمود الجداول الزمنية، مع إهمال الواقع الاجتماعي. وأكدت الوزيرة بوضوح: «إدارة الوقت الإداري يجب أن تراعي التحولات المجتمعية وتلبي احتياجات الأسرة المغربية». بمعنى آخر: العمل بطريقة مختلفة، والتفكير بطريقة مختلفة.
يرتكز الإصلاح على مبدأ أساسي : تمكين الموظفين من التوفيق بين مسؤولياتهم المهنية والعائلية دون التضحية بأي منهما. وأشارت الوزيرة إلى أن هذه المسؤولية ليست مطلوبة فقط من النساء، بل هي واجب جماعي لتقاسم الأعباء الأسرية، وهو تقدم ثقافي وتنظيمي في الوقت نفسه.
تشمل المقترحات ثلاثة نماذج رئيسية : العمل الجزئي، الذي يسمح للموظف بالعمل نصف الوقت مقابل نصف الراتب، وهو خيار عملي لمن يمرون بظروف خاصة مثل تربية الأطفال، رعاية أحد الأقارب، أو الدراسة، وقد طبق بنجاح في عدة دول أوروبية؛ ساعات العمل المرنة، التي تتيح للموظف بدء أو إنهاء يومه وفق ظروفه مع الالتزام بالمدة القانونية للعمل لتخفيف القيود الزمنية الصارمة؛ وتوسيع العمل عن بعد والعمل الهجين، مع تحديد إطار واضح يجمع بين التواجد المادي والنشاط عن بعد، وجعل هذه الممارسة قانونية وآمنة وقابلة للقياس، وليست امتيازًا فرديًا.
هذه الإجراءات ليست منفصلة، بل جزء من رؤية أكبر لتحديث الدولة وتحسين الخدمات العامة. من أهداف الإصلاح تعزيز الإنتاجية وجودة الخدمات عبر التركيز على رفاهية الموظفين، إذ أثبتت الدراسات أن الموظفين المتوازنين، الأقل توترًا، والأكثر قدرة على تنظيم وقتهم، يقدمون أداءً أفضل وأكثر إبداعًا واهتمامًا بالمستفيدين.
يشمل الإصلاح البعد القانوني أيضًا، إذ ستتم مراجعة النظام الأساسي للوظيفة العمومية لضمان التوافق مع قانون الشغل. ويهدف المشروع إلى أن ينعكس تأثيره أيضًا على القطاع الخاص، بحيث تحفز التجربة الحكومية الشركات على تبني ممارسات مماثلة.
التحدي الأكبر هو تغيير الثقافة الإدارية: إدخال العمل عن بعد، وتعديل ساعات العمل، أو السماح بالعمل الجزئي يتطلب إعادة التفكير في نموذج الإدارة القائم على المراقبة والتحكم و"التحقق من الحضور".
هل الإدارات المغربية مستعدة لذلك؟ هل المسؤولون يقبلون هذا التحول؟ الإصلاح يحتاج إلى تدريب، دعم، وإقناع، لأن مقاومة التغيير غالبًا ما تكون أكبر من التغيير نفسه.
النقاش لا يقتصر على ساعات العمل، بل يتعلق بنموذج المجتمع: ما مكانة الأسرة؟ الصحة النفسية؟ الكرامة المهنية؟ التوازن بين الحياة والعمل؟ الهدف هو إعادة النظر في مفهوم الكفاءة، الذي لم يعد يقاس بالوقت فقط، بل بجودة العمل المنجز.
المغرب ليس أول دولة تسلك هذا الطريق، لكنه يصل في لحظة حاسمة، حيث تتلاقى الرقمنة، الوظائف الجديدة، تطلعات الشباب، والتطورات الاجتماعية لفرض عقد ثقة جديد بين الدولة وموظفيها. إذا نجح الإصلاح، فسيكون نموذجًا يحتذى به في قطاعات أخرى، ودليلًا على أن التحول الإداري أصبح واقعًا وليس شعارًا.
التحدي الأكبر هو الاعتراف بأن وراء كل خدمة وكل ملف هناك حياة، أسرة، وشخص، وليس مجرد موظف أو إجراء إداري، قد يكون هذا القرار هو بداية الإصلاح الأكثر جوهرية في تاريخ الإدارة المغربية و الذي يوازن بين الكفاءة و الجانب الإنساني
