صحيح أن علال الفاسي لم يعايش هذه المرحلة، ولم يضع تصوّراته في ضوء هذه الأدبيات الجديدة، لكنه رغم ذلك لا يفقد راهنيته. بل إن فكره يبدو أكثر رسوخًا اليوم، لأنه يستند إلى مفاهيم نحتها من صميم المرجعية الإسلامية، مفاهيم متماسكة لا تتفتت أمام سيولة القيم ولا تُختزل في أهواء السوق والجسد.
يرى الفاسي أن الحرية ليست غريزة، بل خلق روحي مسؤول. ليست اندفاعًا فطريًا نحو اللذة، بل بناء تدريجي لإرادة تتحرر من عبودية الشهوة والضغط الاجتماعي. “الحرية الإسلامية، هي التي جعلت العبيد أحرارًا في الوقت الذي كانت أجسامهم ما تزال تحت سيطرة السادة”، كما قال. فالحرية عنده ليست انفلاتًا من القيود، بل ارتقاء بالروح على حساب الغريزة، وتفعيل للعقل في خدمة المقاصد العليا.
ويرتبط هذا التصور بشكل عضوي بعقيدة التوحيد، التي تجعل العبودية لله وحده وسيلة للتحرر من كل قيد دنيوي أو سلطوي. فالإنسان لا يولد حرًا، بل يُكلف بأن يتحرر، فيُصبح مسؤولًا عن نفسه ومجتمعه، منخرطًا في مشروع عمارة الأرض وفق التكليف الشرعي. ولذلك، فحرية الإنسان لا تُقاس بمدى انفلاته من الضوابط، بل بقدر قدرته على تقييد نزواته بما يحقق له السمو الأخلاقي والكرامة.
وقبل الغوص في تفكيك الطروحات الحديثة حول الحريات الفردية، الذي هو غايتنا من هذه السطور ، لا بد من التوقف لحظة أمام الخلفية الفلسفية التي تقوم عليها هذه المفاهيم قبل عرضها على الميزان العلالي . فالحريات الفردية كما تُطرح اليوم، لا تنبع من تصور كلي للإنسان، بل من مقاربة جزئية تختزله في بعده الفرداني والجسدي. في المقابل، فإن تصور علال الفاسي للحرية ينبع من رؤية تكاملية للإنسان، بوصفه كائنًا ذا روح وعقل ومسؤولية شرعية. من هنا، تظهر الحاجة إلى مقارنة جذرية: هل الحرية أن يفعل الإنسان ما يشاء بجسده، أم أن يكون مسؤولًا عن كيانه في ضوء مقصد أسمى؟ هذا هو المفترق الذي يجعل من فكر علال الفاسي مادة خصبة تسعف في إعادة صياغة المفهوم،مفهوم الحرية الفردية خارج منطق الصراع الايديلوجي . …
وبهذا المعنى، فإن ما يُطرح اليوم من مفاهيم مثل “حرية الجسد”، أو “العلاقات الرضائية”، أو “الإجهاض”، لا يُمكن اعتباره حرية حقيقية وفق هذا الإطار، إطار فكر علال الفاسي ، لأنها تقوم على اختزال الإنسان في بعده الحيواني. الحرية هنا تتحول إلى عبودية مقنّعة، عبودية للغريزة، تسلب الإنسان إنسانيته، وتحول الجسد من وسيلة إلى غاية. أما الحرية الحقة، فهي تحرر الروح من سطوة المادة، وسموّ بالإنسان نحو غايته الأخلاقية والوجودية.
وفي هذا الأفق نفسه ،ورغم أن تصور عبد الوهاب المسيري، جاء لاحقا زمنيا لفكر علال الفاسي، فإن رؤيته تتقاطع معه بعمق، ويمثل المسيري نموذجا لفكر خرج من عباءة الماركسية المادية ليعود إلى مرجعية إسلامية متجاوز القطيعة بين الالتزام الإيمان والتحليل النقدي إذ حذّر بعده وبدوره من النموذج الغربي المادي للحرية، والذي يفصلها عن الأخلاق والدين، مما يؤدي إلى تفكك المجتمعات واغتراب الإنسان عن ذاته. الحرية عنده أيضًا ليست انفلاتًا، بل مسؤولية في إطار منظومة من القيم المتعالية.
في مقابل ذلك، شدد علال الفاسي على أن الحرية الفكرية ركيزة للتقدم والنهضة، وأن المجتمعات لا تتطور إلا حين تفتح المجال للتفكير النقدي، في إطار مشروع ديمقراطي أصيل، قائم على العقل والنقد الذاتي. ولذلك ظل وفيًا لاختياره الديمقراطي لا كشكل مؤسساتي فقط، بل كمنهج في التفكير والعمل، قائم على التوازن بين الحرية والضبط، بين الفرد والمجتمع، بين الحقوق والواجبات.
بطبيعة الحال، ثمة أطروحات داخل الفكر المعاصر تدافع عن نماذج حرية “معتدلة” تنأى عن الفوضى، وتدعو إلى توازن بين الجسد والروح، لكنها في الغالب تبقى حبيسة السياق الليبرالي الغربي، المفتقر إلى المرجعية المتعالية التي توفرها الرؤية المقاصدية الإسلامية.
إن سؤال الحريات الفردية اليوم ليس مجرد سجال قانوني أو ثقافي، بل هو سؤال وجودي يمس تعريف الإنسان لذاته، وتحديد طبيعة العلاقة بينه وبين جسده، وبين الحرية والضابط الأخلاقي. وفي هذا السياق، يظل فكر علال الفاسي منجمًا غنيًا يمكن العودة إليه، لا لنستنطقه كما هو، بل لنستثمر مفاهيمه الكبرى: الحرية كخلق، لا كغريزة؛ كمسؤولية، لا كهروب؛ كتحرر نحو الله، لا سقوط في هوى النفس وإغراء السوق .
السؤال الذي يجب أن نطرحه إذًا هو: هل نملك الشجاعة لنعيد تعريف الحرية؟ لا بما يفرضه السوق أو النزوة، بل بما يحقق إنسانيتنا في أرقى صورها؟ ربما يكون هذا هو التحدي الحقيقي الذي تركه لنا علال الفاسي.
كاتب مغربي
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية "راي اليوم" مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع للدعم:
يرى الفاسي أن الحرية ليست غريزة، بل خلق روحي مسؤول. ليست اندفاعًا فطريًا نحو اللذة، بل بناء تدريجي لإرادة تتحرر من عبودية الشهوة والضغط الاجتماعي. “الحرية الإسلامية، هي التي جعلت العبيد أحرارًا في الوقت الذي كانت أجسامهم ما تزال تحت سيطرة السادة”، كما قال. فالحرية عنده ليست انفلاتًا من القيود، بل ارتقاء بالروح على حساب الغريزة، وتفعيل للعقل في خدمة المقاصد العليا.
ويرتبط هذا التصور بشكل عضوي بعقيدة التوحيد، التي تجعل العبودية لله وحده وسيلة للتحرر من كل قيد دنيوي أو سلطوي. فالإنسان لا يولد حرًا، بل يُكلف بأن يتحرر، فيُصبح مسؤولًا عن نفسه ومجتمعه، منخرطًا في مشروع عمارة الأرض وفق التكليف الشرعي. ولذلك، فحرية الإنسان لا تُقاس بمدى انفلاته من الضوابط، بل بقدر قدرته على تقييد نزواته بما يحقق له السمو الأخلاقي والكرامة.
وقبل الغوص في تفكيك الطروحات الحديثة حول الحريات الفردية، الذي هو غايتنا من هذه السطور ، لا بد من التوقف لحظة أمام الخلفية الفلسفية التي تقوم عليها هذه المفاهيم قبل عرضها على الميزان العلالي . فالحريات الفردية كما تُطرح اليوم، لا تنبع من تصور كلي للإنسان، بل من مقاربة جزئية تختزله في بعده الفرداني والجسدي. في المقابل، فإن تصور علال الفاسي للحرية ينبع من رؤية تكاملية للإنسان، بوصفه كائنًا ذا روح وعقل ومسؤولية شرعية. من هنا، تظهر الحاجة إلى مقارنة جذرية: هل الحرية أن يفعل الإنسان ما يشاء بجسده، أم أن يكون مسؤولًا عن كيانه في ضوء مقصد أسمى؟ هذا هو المفترق الذي يجعل من فكر علال الفاسي مادة خصبة تسعف في إعادة صياغة المفهوم،مفهوم الحرية الفردية خارج منطق الصراع الايديلوجي . …
وبهذا المعنى، فإن ما يُطرح اليوم من مفاهيم مثل “حرية الجسد”، أو “العلاقات الرضائية”، أو “الإجهاض”، لا يُمكن اعتباره حرية حقيقية وفق هذا الإطار، إطار فكر علال الفاسي ، لأنها تقوم على اختزال الإنسان في بعده الحيواني. الحرية هنا تتحول إلى عبودية مقنّعة، عبودية للغريزة، تسلب الإنسان إنسانيته، وتحول الجسد من وسيلة إلى غاية. أما الحرية الحقة، فهي تحرر الروح من سطوة المادة، وسموّ بالإنسان نحو غايته الأخلاقية والوجودية.
وفي هذا الأفق نفسه ،ورغم أن تصور عبد الوهاب المسيري، جاء لاحقا زمنيا لفكر علال الفاسي، فإن رؤيته تتقاطع معه بعمق، ويمثل المسيري نموذجا لفكر خرج من عباءة الماركسية المادية ليعود إلى مرجعية إسلامية متجاوز القطيعة بين الالتزام الإيمان والتحليل النقدي إذ حذّر بعده وبدوره من النموذج الغربي المادي للحرية، والذي يفصلها عن الأخلاق والدين، مما يؤدي إلى تفكك المجتمعات واغتراب الإنسان عن ذاته. الحرية عنده أيضًا ليست انفلاتًا، بل مسؤولية في إطار منظومة من القيم المتعالية.
في مقابل ذلك، شدد علال الفاسي على أن الحرية الفكرية ركيزة للتقدم والنهضة، وأن المجتمعات لا تتطور إلا حين تفتح المجال للتفكير النقدي، في إطار مشروع ديمقراطي أصيل، قائم على العقل والنقد الذاتي. ولذلك ظل وفيًا لاختياره الديمقراطي لا كشكل مؤسساتي فقط، بل كمنهج في التفكير والعمل، قائم على التوازن بين الحرية والضبط، بين الفرد والمجتمع، بين الحقوق والواجبات.
بطبيعة الحال، ثمة أطروحات داخل الفكر المعاصر تدافع عن نماذج حرية “معتدلة” تنأى عن الفوضى، وتدعو إلى توازن بين الجسد والروح، لكنها في الغالب تبقى حبيسة السياق الليبرالي الغربي، المفتقر إلى المرجعية المتعالية التي توفرها الرؤية المقاصدية الإسلامية.
إن سؤال الحريات الفردية اليوم ليس مجرد سجال قانوني أو ثقافي، بل هو سؤال وجودي يمس تعريف الإنسان لذاته، وتحديد طبيعة العلاقة بينه وبين جسده، وبين الحرية والضابط الأخلاقي. وفي هذا السياق، يظل فكر علال الفاسي منجمًا غنيًا يمكن العودة إليه، لا لنستنطقه كما هو، بل لنستثمر مفاهيمه الكبرى: الحرية كخلق، لا كغريزة؛ كمسؤولية، لا كهروب؛ كتحرر نحو الله، لا سقوط في هوى النفس وإغراء السوق .
السؤال الذي يجب أن نطرحه إذًا هو: هل نملك الشجاعة لنعيد تعريف الحرية؟ لا بما يفرضه السوق أو النزوة، بل بما يحقق إنسانيتنا في أرقى صورها؟ ربما يكون هذا هو التحدي الحقيقي الذي تركه لنا علال الفاسي.
كاتب مغربي
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية "راي اليوم" مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع للدعم: