هذا التصريح، الذي بدا للوهلة الأولى كجملة عابرة في سياق حزبي داخلي، تحوّل بسرعة إلى قضية رأي عام، بعدما أشعل منصات التواصل الاجتماعي، وأثار سخطًا واسعًا في صفوف المنظمات النسائية والحقوقية، التي اعتبرت كلام بنكيران إهانة مباشرة لكرامة المرأة، وتقزيماً لدورها في المجتمع، وضربًا لمكتسبات ناضلت من أجلها الأجيال لعقود.
كما أن هذا التصريح أعاد إلى الأذهان مواقف سابقة لبنكيران عندما كان رئيسًا للحكومة سنة 2014، حين دعا النساء صراحة إلى التخلي عن العمل خارج البيت للاهتمام بأسرهن، وشبّه غياب المرأة عن المنزل بـ"الثريا التي تفقد نورها"، وهي تصريحات فجّرت آنذاك موجة من الغضب النسائي، أطلقت معها حملة رقمية واسعة تحت هاشتاغ “#anamachitria”، عبّرت من خلالها نساء وفتيات عن سخطهن، ورفضهن لما وصفنه بخطاب رجعي يعاكس روح العصر والدستور المغربي. حتى الوزيرة السابقة المكلفة بشؤون المرأة، نزهة الصقلي، وصفت حينها رؤية بنكيران بأنها "تعود إلى العصر الحجري ولا تحترم الفصل 19 من الدستور.
عدد من الحقوقيات وصفن تصريح بنكيران بـ"النكسة الحقوقية" و"الارتداد الخطير" عن مسار ترسيخ المساواة والمناصفة كما ينص عليه دستور 2011. بل إن البعض رآه طعنًا في توجهات الدولة نفسها، التي ما فتئت تعلن عن التزاماتها بتحقيق العدالة الجندرية، والنهوض بحقوق النساء، لا سيما في ظل الورش الكبير المتعلق بمراجعة مدونة الأسرة.
تصريحات بنكيران جاءت في سياق انتقاده لما وصفه بـ"الحملات التي تدفع الفتيات لتأجيل الزواج"، لكنه اختزل المسألة في ثنائية سطحية: إمّا الزواج أو لا جدوى من التعليم، هذه المقاربة أثارت موجة من الغضب لدى فاعلين تربويين، اعتبروا أن مثل هذا الخطاب يشجع على الهدر المدرسي، خاصة في المناطق المهمشة، حيث لا تزال نسبة تمدرس الفتيات في مستوياتها الدنيا، ويحتاج الأمر إلى جهود مضاعفة، لا إلى رسائل محبطة تصدر عن مسؤول سياسي سابق.
اللافت أن بنكيران، الذي شغل لسنوات رئاسة الحكومة وكان من الموقعين على سياسات عمومية في مجالات التربية وتمكين المرأة، يختار الآن خطابًا مناقضًا لما كان يُروج له رسميًا. وهذا ما دفع العديد من المتابعين إلى التساؤل: هل هي زلّة لسان؟ أم جزء من خطاب شعبوي يعود به بنكيران إلى قواعده الانتخابية المحافظة، مستثمرًا الانقسام المجتمعي حول قضايا المرأة لتعزيز موقعه السياسي؟
تصريحات بنكيران المتكررة تسائل بحدة مدى التزام الأحزاب السياسية، وخاصة ذات المرجعية الإسلامية، بروح الدستور المغربي الذي ينص على المساواة وتكافؤ الفرص، وتطرح علامات استفهام عريضة حول مدى احترامهم للتوجيهات الملكية الرامية إلى النهوض بأوضاع النساء، ومراجعة مدونة الأسرة على أساس الإنصاف والكرامة لا التبعية والوصاية.
ما يثير القلق أكثر هو أن هذا الخطاب لا يصدر عن شخص عادي، بل عن رئيس حكومة سابق، وشخصية سياسية راكمت تجربة طويلة في تدبير الشأن العام، مما يُكسب كلماته وزنًا وتأثيرًا أكبر في الوعي الجمعي. وهو ما دفع جمعيات نسائية وحقوقية إلى التحضير لردود فعل غاضبة، قد تصل إلى بيانات احتجاجية أو خطوات قانونية، خصوصًا وأن كلامه يُقرأ كترويج مباشر لخطاب تمييزي وتشجيع ضمني على انسحاب النساء من الحياة العامة.
وفي الوقت الذي تبذل فيه الدولة مجهودات ضخمة لمكافحة الهدر المدرسي، خصوصًا في صفوف الفتيات، وتحقيق مبدأ التمكين الاقتصادي والاجتماعي للمرأة، يأتي خطاب من هذا النوع ليمس جوهر الإصلاحات، ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء، بتكريس صورة المرأة المنحسرة في أدوار نمطية.
في المقابل، لم يغب صوت التأييد تمامًا، فقد لقي تصريح بنكيران تجاوبًا من بعض الأوساط التقليدية، التي ترى في دعوته للزواج المبكر "نصيحة واقعية" في ظل صعوبات سوق الشغل وتعقيد الحياة اليومية، كما عبّر عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي عن دعمهم لرؤية بنكيران، معتبرين أن "الأسرة هي الأولوية" وأن "المدرسة لم تعد تضمن مستقبلًا مضمونًا".
غير أن النقاش تجاوز الأبعاد الشخصية لبنكيران، ليطرح أسئلة أعمق حول صورة المرأة في الخطاب السياسي المغربي، وحدود التعبير في دولة ينص دستورها على الالتزام بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليًا. كما أعاد النقاش إلى الواجهة مسألة مدى التزام الأحزاب السياسية، بمختلف أطيافها، بمبدأ المساواة في الفرص، خاصة عندما يتعلق الأمر بقيادات بارزة تصدر عنها تصريحات توحي بعكس ما تدّعيه برامجها الانتخابية.
إن تصريحات بنكيران، وإن اعتبرها البعض مجرد رأي، تُظهر حجم التحديات التي لا تزال قائمة أمام ترسيخ ثقافة المساواة والكرامة، وتكشف أن المعركة من أجل حقوق النساء ليست فقط قانونية أو مؤسساتية، بل هي أيضاً معركة خطاب وقيم وتمثلات، تستدعي من المجتمع المدني، والإعلام، والمؤسسات، أن تبقى يقظة أمام كل محاولات التراجع أو الالتفاف على المكتسبات.