فن وفكر

“غريس من موناكو”: مأساة الأنوثة المحاصرة بين التاج والضوء


يقدم فيلمGrace of Monaco تأملاً بصريًا وسرديًا في التمزق الوجودي لامرأة مُعلّقة بين نجومية هوليود وضغوط السياسة الملكية في إمارة صغيرة، تُحاصرها فرنسا والأدوار. تقارب هذه الدراسة الفيلم من خلال شخصية غريس كيلي كأنموذج لـ”المرأة الرمز” التي يتم استملاكها باسم الصورة، وباسم الدولة، وباسم التقاليد، وتحاول الحفاظ على ذاتها عبر لعبة التمثيل الجديدة في الحياة نفسها.



بقلم: الكاتب والإعلامي عبدالعزيز كوكاس

عندما يصير القصر قناعًا آخر

تبدأ الحكاية من مفارقة: نجمة سينمائية فائزة بالأوسكار تقرر أن تتخلى عن السينما، لتصير لتصبح أميرة حقيقية.

لكن سرعان ما يتبين أن قصر موناكو ليس أقل إخراجًا من بلاتو هوليوود، وأن أدوار الملوك قد تكون أكثر قسوة من أدوار الكاميرا.

لا يُقدم الفيلم سيرة ذاتية تقليدية بل يختار لحظة محددة من حياة غريس تقع بين 1961 و1962، حيث بلغت الأزمة الدبلوماسية بين موناكو وفرنسا ذروتها، وكانت مكانة الأميرة على المحك.

يُجسد فيلم “غريس من موناكو” تأريخًا شاعريًا لامرأة كانت، في لحظة من حياتها، رمزًا للفتنة الهوليودية، قبل أن تتحول إلى أيقونة ملكية وسط رتابة القصور.

تؤدي نيكول كيدمان، الحائزة على جائزة الأوسكار، دور غريس كيلي، ابنة أحد أباطرة العقار في فيلادلفيا، التي سحرت الشاشة بجاذبية فطرية وأناقة لا تصنعها المدارس.

مزيج من النبل والرقة في حضورها جذب المخرج الكبير ألفريد هيتشكوك، فاستعان بها في ثلاثة من أبرز أفلامه: Dial M for Murder (اتصل بـ إم للجريمة)، وRear Window (النافذة الخلفية)، وTo Catch a Thief (للقبض على لص)، لتصبح غريس بسرعة وجهًا سينمائيًا عالميًا.

عندما ذهبت إلى مهرجان “كان” عام 1955 للترويج لفيلم The Country Girl (الفتاة القروية) الذي نالت عنه أوسكار أفضل ممثلة، وقعت مصادفة في قبضة القدر بلقاء مع أمير موناكو، رينييه الثالث، الذي لم يتردد في الوقوع في حبها.

لم تكن فقط إحدى أكثر نجمات هوليود أناقة، بل بدا أنها تستكمل أسطورة سندريلا المعاصرة: اعتزال التمثيل، ارتداء التاج، السكن في القصر وبدء حياة “سعيدة إلى الأبد”. غير أن الواقع كان أشد قسوة من السيناريو.

وجدت غريس، التي لم تتعلم الفرنسية عند انتقالها، نفسها غريبة في قصر لا يشبه أحلام الشاشة. علاقاتها الزوجية تصدعت في صمت وأوهام السعادة تكسّرت على جدران البروتوكول، فيما كانت عيناها، كما يصورها الفيلم، تلمعان بالدمع وتطفحان بتعبٍ داخلي. كانت تشعر بأنها خانت نفسها وطموحاتها، ممثلة اعتزلت التمثيل فقط لتجد نفسها في دور أشد صرامة وأقل رحمة.

في عام 1961، عاد شبح الماضي حين زارها هيتشكوك (يؤدي دوره روجر أشتون غريفيث)، عارضًا عليها بطولة فيلم “مارني”، مثّل العرض لحظة استعادة، إغواء فنّي وحبل نجاة من زواج فاتر لتدخل غريس في دوامة من التردد والقلق.

في خضم هذه الأزمة، لجأت إلى كاهن روحاني (فرانك لانجيلا)، علّها تجد إجابة وجودية وسط الصمت الملكي.

في الوقت نفسه، كانت إمارة موناكو مهددة سياسيًا. فقد أصدر شارل ديغول (في أداء قوي لأندريه بنفيرن) إنذارًا للأمير رينييه بفرض ضريبة على الأثرياء الذين يتخذون من الإمارة ملاذًا ضريبيًا، مهددًا بشكل غير مباشر بضم موناكو إلى فرنسا إذا لم تخضع لشروطه. وجد الأمير نفسه في مواجهة مصيرية لا يملك لها أدوات الصد، وكان خطر الاجتياح الفرنسي وشيكًا.

في هذه اللحظة الحرجة، اختارت غريس أن تتخلى عن فكرة العودة إلى السينما. قررت أن تستعيد دورها هذه المرة ليس كممثلة هوليودية ولكن كممثلة على مسرح السياسة والدبلوماسية الملكية.

تدربت على أداب السلك الأرستقراطي الأوروبي، تعلمت فن الإلقاء والتأثير، وأعادت تشكيل خطابها وجسدها ولغتها لتصبح “أميرة واعية باللعب الرمزي للسلطة”.

أعدت غريس حفلًا ضخمًا لدعم منظمة الصليب الأحمر، دعَت إليه شخصيات أمريكية بارزة دون دعوة مسؤولين فرنسيين، في إشارة دبلوماسية ذكية إلى رفض الإذعان.

ألقت فيه خطابًا مؤثرًا أصبح لحظة حاسمة في مسيرتها، فقد نالت إعجاب الصحافة العالمية وأكسبت موناكو دعمًا رمزيًا دوليًا. تحوّلت غريس من أميرة ديكور إلى فاعلة في القرار السياسي بل وسيطة غير رسمية بين أمريكا وأوروبا.

وهكذا دون أن تطلق رصاصة ودون أن تعود لهوليود، كتبت غريس بطريقتها مشهدها الأخير كمنقذة لمملكتها الصغيرة، امرأة اختارت ألا تهرب من الدور، بل أن تكتبه من الداخل. التاريخ، الذي خلدها ذات يوم كأجمل نساء الشاشة، سيذكرها أيضًا كأميرة تنازلت عن ذاتها من أجل بلد صغير لم يكن خيارها الأول.

لكن قدرها، الذي كانت تظن أنها تملصت منه، عاد ليكمل دائرة الأسطورة بطريقة تراجيدية. فقد توفيت غريس كيلي في حادثة سير مفجعة عام 1982، وهي تقود سيارتها على أحد منعطفات الجبال، في مشهد يذكّر بمصير الأميرة ديانا بعد عقد ونصف.

نهاية مأساوية لامرأة كانت قد وهبت حياتها لصورة أكبر منها، وعاشت حياتها كلها في الدور… دون أن يُقال لها “اقطعي!”

السرد المحكوم بالحس الجمالي: الأنوثة في قفص الرفاه
اعتمد أوليفييه داهان على سرد يتكئ على المشهدية المترفة، ليُجسد سجن الرفاه، حيث كل شيء أنيق، جميل، لكنه خانق. يُقارب المخرج تجربة غريس من الداخل، لا بوصفها سيدة مجتمع بل امرأة تحاول النجاة من الانمحاء، إذ تواجه: سلطة الزوج (الأمير رينييه) الذي لا يُصغي، سلطة الدولة الفرنسية التي تهدد وجود الإمارة، سلطة الشعب الذي يرى فيها جسدًا للتمثيل السياسي وسلطة الذات، إذ تشعر بأنها خانت نفسها وفنها.

غريس كيلي: الشخصية كأطروحة فلسفية
غريس كيلي، كما يصورها الفيلم، ليست فقط زوجة أمير بل أيقونة وجودية معلقة. الجمال، الشهرة وحتى “التهذيب الملكي” كلها أقنعة فرضها المحيط، لذلك يصبح سؤال الفيلم الجوهري هو كيف تحفظ امرأة هويتها حين يُعاد تشكيلها باستمرار باسم الأدوار الاجتماعية؟

حين يُطلب منها أن تعود إلى هوليود، تقف غريس في مفترق طرق وجودي: العودة إلى الذات الأولى (النجمة الحرة) أم أداء دور جديد اسمه “الأميرة السياسية”، وتقرر في النهاية أن تستخدم موهبتها في التمثيل لإنقاذ البلاد، بأن تتحول إلى أميرة مكتملة، تتحدث، وتخطب، وتؤثر… كأنها تمثل دورًا في فيلم حقيقي لكن هذه المرة حياتها هي السيناريو.

اللغة البصرية والصوتية: أناقة تؤطر القلق
اعتمدت الكاميرا على لقطات طويلة تتبع غريس في أروقة القصر، لتعكس شعورها بالتيه، وكأنها لا تتحرك في بيتها بل في متاهة من القواعد. ومعه يبرز غنى الفيلم بألوان الذهب والعاج والأبيض التي لا تدفئ بل تُكرّس الإحساس بالبرد العاطفي والانفصال.

الأناقة هنا ليست للمتعة بقد ما هي وسيلة لإبراز الاغتراب. لذلك فإن أغلب القطع الموسيقية حزينة، كلاسيكية، تشبه عزفاً داخليًا للروح التي لا تستطيع أن تصرخ، بل تتنهد.

السلطة السياسية والأنوثة الرمزية
يعرض الفيلم غريس كواجهة رمزية لمقاومة الإمارة لضغوط شارل ديغول، لكن من زاوية مختلفة، من جانب قوة الصورة. حين تلقي خطابها الختامي أمام الصحافة العالمية، لا تستخدم مفردات السياسة، بل مفردات إنسانية – وجدانية. وهو ما يُعيد تعريف الدور النسوي في المجال العام: ليس عبر التماهي مع القاموس الذكوري بل عبر فرض قاموس ناعم، لكنه فعال.

Grace of Monaco ليس فيلمًا تاريخيًا ولا سيرة وفية، بل تأمل درامي – شاعري في معنى الهوية الأنثوية تحت ضغط التمثيل الاجتماعي والسياسي، فيلم عن امرأة عاشت بين عدستين: الأولى كاميرا هوليود والثانية عدسة السلطة. وفي كليهما، كان عليها أن تُؤدي الدور. حيث اختارت غريس كيلي أن “تمثل” لتبقى، تمامًا كما تقول في الفيلم: “الحياة كلها مشهد، وأنا اخترت دوري الأخير.”

نقد سردي: بين السيرة والأسطورة
تعرض الفيلم لنقد واسع بسبب التباين بين “الحقيقة التاريخية” وبين ما صُوّر. لكن من منظور سردي سينمائي، لا يعتبر هذا عيبًا بل خيارًا واعيًا، فوظيفة الفيلم التخييلي لا تتمثل في التوثيق بل إنه هنا يكتب سيرة رمزية للأنوثة المحاصرة.

غريس ليست فقط امرأة حقيقية بل رمز لكل امرأة تم اختزالها في دور اجتماعي، وظلت تصارع كي لا تختفي ذاتها خلف القناع.

لكن ما يعاب على فيلم “غريس من موناكو” هو التأكيد على فكرة أن حياة غريس كان من المفترض أن تكون قصة خرافية، لكنها لم تكن كذلك في الواقع التاريخي.

من خلال مسار حبكة الفيلم، نحس بإقحام بعض العناصر المفتعلة ومحاولات لا داعي لها للتشويق، ويؤاخذ النقاد مخرج الفيلم على كون السيناريو لا يسمح لنا أبدا بالدخول إلى رأس غريس أو فهم ما تراه في الأمير رينييه الثالث، على الرغم من بعض اللحظات المثيرة التي صدرت عن بطلة الفيلم كيدمان بما في ذلك خطابها القوي في الحفلة النهائية للصليب الأحمر، وهي اللحظة الكبرى التي قد يجد فيها المشاهدون تفاعلًا حقيقيًا صادقا بين الأمير والأمير وشعبهما ومحيطهما.

Sara Elboufi
سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة مقدمة البرنامج الإخباري "صدى الصحف" لجريدة إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الثلاثاء 4 نوفمبر 2025

              

آخر الأخبار | حياتنا | صحتنا | فن وفكر | لوديجي ستوديو | كتاب الرأي | أسرتنا | تكنو لايف | بلاغ صحفي | لوديجي ميديا [L'ODJ Média] | كيوسك | اقتصاديات | كلاكسون | سپور


Bannière Réseaux Sociaux

Bannière Lodj DJ

















LODJ24
آخر الأخبار
جاري تحميل الأخبار...
BREAKING NEWS
📰 Chargement des actualités...




ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو
WhatsApp Image 2025-10-29 at 10.04.14 (1)
WhatsApp Image 2025-11-04 at 11.30.58 (1)
WhatsApp Image 2025-10-29 at 10.04.11 (1)
WhatsApp Image 2025-11-04 at 11.30.58 (8)
11
6
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو LODJ ميديا
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو LODJ ميديا
WhatsApp Image 2025-10-29 at 10.04.15 (1)
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو LODJ ميديا
WhatsApp Image 2025-10-29 at 10.04.12 (2)
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو LODJ ميديا
WhatsApp Image 2025-10-29 at 10.04.12 (1)
WhatsApp Image 2025-11-04 at 11.31.00 (2)
9
WhatsApp Image 2025-11-04 at 11.30.58 (7)
WhatsApp Image 2025-11-04 at 11.30.58 (2)
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو
18
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو LODJ ميديا
5
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو LODJ ميديا
WhatsApp Image 2025-10-29 at 10.04.13
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو LODJ ميديا
WhatsApp Image 2025-10-29 at 10.04.14 (5)
WhatsApp Image 2025-11-04 at 11.31.00 (3)
WhatsApp Image 2025-10-29 at 10.04.12 (6)
WhatsApp Image 2025-11-04 at 11.30.59 (2)
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو LODJ ميديا
WhatsApp Image 2025-10-29 at 10.04.11
WhatsApp Image 2025-10-29 at 10.04.13 (1)
WhatsApp Image 2025-11-04 at 11.31.00 (1)
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو LODJ ميديا
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو LODJ ميديا
ملحمة المذيعين وضيوفهم في استوديو LODJ ميديا
10




Buy cheap website traffic