لكن هذا التوسع السريع في مشاريع التحلية لا يخلو من أسئلة جوهرية: هل يُمثل هذا الخيار استثماراً مستداماً بيئياً ومالياً؟ هل سيضمن وصول الماء لجميع المواطنين دون تمييز؟ وهل تملك الدولة القدرة على تحمل كلفته المالية على المدى الطويل؟
دينامية متسارعة في مشاريع التحلية
شهد المغرب خلال السنوات الأخيرة طفرة كبيرة في مشاريع تحلية مياه البحر، تميزت بتوسع جغرافي يغطي محاور استراتيجية كبرى. من أكادير إلى الدار البيضاء، ومن الداخلة إلى بوجدور، أضحت المدن الساحلية الكبرى في قلب الرهان على هذا الحل التقني.
محطة تحلية مياه أكادير، التي بدأت العمل سنة 2022، تُعد الأكبر من نوعها في إفريقيا بطاقة إنتاج تفوق 400 ألف متر مكعب يومياً. في حين أن محطة الدار البيضاء المرتقبة ستزود أكثر من 7.5 ملايين نسمة، ما يعكس الطموح لتغطية أكثر من نصف الحاجيات الوطنية من الماء الشروب من خلال التحلية في أفق 2030.
تعتمد هذه المشاريع في الغالب على شراكات بين القطاعين العام والخاص، في إطار مناخ استثماري يوفر دعم الدولة وثقة المؤسسات. ورغم هذه الدينامية الإيجابية، إلا أن غياب رؤية موازية تأخذ بعين الاعتبار الكلفة البيئية والاجتماعية يجعل من التحلية حلاً تقنياً هشاً إذا لم يُدمج في مقاربة شمولية.
كلفة باهظة تطرح إشكالات العدالة والتمويل
يبقى التحدي الأكبر المرتبط بتحلية المياه هو ارتفاع كلفتها الطاقية والمالية. إذ يتطلب إنتاج متر مكعب واحد من الماء المحلى ما بين 3 إلى 5 كيلواط/ساعة من الكهرباء، حسب نوعية التكنولوجيا المعتمدة. وبما أن جزءاً كبيراً من الكهرباء في المغرب لا يزال يعتمد على الفحم والغاز، فإن تكلفة التشغيل تظل مرهونة بتقلبات أسعار الطاقة العالمية.
تتراوح تكلفة المتر المكعب الواحد من الماء المحلى بين 6 و10 دراهم، وهو ما يتجاوز بكثير تكلفة المياه السطحية أو الجوفية. هذا الفارق يُصعّب تعميم التحلية على المناطق القروية أو دمجها في القطاع الفلاحي، الذي يعتمد على كميات كبيرة من الماء. كما أن عقود الشراكة الطويلة الأمد قد تُثقل كاهل المالية العمومية والتزامات الأجيال القادمة، ما يطرح تساؤلات حول مدى استدامة هذا النموذج من حيث التمويل والسيادة الاقتصادية.
انعكاسات بيئية لا يمكن تجاهلها
رغم ما تُتيحه من حلول عاجلة، فإن تحلية المياه تطرح إشكالات بيئية معقّدة. أولها المياه المالحة المركزة (Saumure) الناتجة عن العملية، والتي تُعاد إلى البحر وقد تُحدث خللاً في التوازنات البيئية البحرية إذا لم تُعالج أو تُوزع بطريقة مناسبة.
إلى جانب ذلك، تُخلف هذه المحطات بصمة كربونية عالية بسبب استهلاكها الكبير للكهرباء، مما يُقلّل من أي أثر بيئي إيجابي مفترض. صحيح أن المغرب يحرز تقدماً في تطوير الطاقات المتجددة، لكن العديد من محطات التحلية الحالية لا تزال تعمل بمزيج طاقي غير نظيف، ما يضعف من جدوى التحلية من منظور التحول البيئي.
كما أن إنشاء هذه المحطات يتطلب تدخلات هندسية على البيئة الساحلية، من مد أنابيب إلى تغيير طوبوغرافيا الشواطئ، مما يستدعي دراسات بيئية دقيقة ومراقبة صارمة لضمان التوازن بين الضرورة التقنية والحفاظ على النظم الطبيعية.
فجوة في الاستفادة: المدن الكبرى أولاً… والباقي مؤجل
رغم الترويج للتحلية كخيار وطني شامل، إلا أن استفادة السكان منها تبقى غير متكافئة. فالمشاريع الكبرى تركز على المدن الساحلية والمراكز الحضرية، في حين تبقى المناطق القروية والمجالات الداخلية الأقل حظاً، وتعاني من عطش مزمن، دون أن تكون هناك حلول قريبة تُمكّنها من الاستفادة من المياه المحلاة، بسبب كلفتها العالية وصعوبة البنية التحتية.
أما القطاع الفلاحي، الذي يُعد المستهلك الأول للمياه في المغرب، فهو خارج معادلة التحلية حالياً، إذ أن سعر المتر المكعب لا يسمح باستخدامه في ري المزروعات دون دعم ضخم من الدولة.