حسب تقرير المعهد المغربي للاستخبارات الاستراتيجية، انخفض نصيب الفرد من الماء إلى أقل من 600 متر مكعب سنويًا، مع توقعات بانحداره إلى ما دون 500 متر في أفق عام 2035، ما يعني أن البلاد دخلت رسميًا مرحلة الإجهاد المائي الحاد.
سيادة مائية على حافة الانهيار
السيادة على الموارد الطبيعية لا تعني امتلاكها فقط، بل تعني أيضًا القدرة على إدارتها والتحكم فيها واستثمارها بشكل مستدام، دون الحاجة لحلول مكلفة. لكن في حالة الماء، تبدو هذه السيادة في المغرب مهددة بشكل واضح، فبينما كان نصيب الفرد من الماء في الستينيات يتجاوز 2600 متر مكعب سنويًا، أصبح اليوم دون 600 متر مكعب، وهي نسبة تعكس تراجعًا مقلقًا في القدرة على تدبير المورد، هذا التدهور لا يمكن تفسيره فقط بتغير المناخ أو قلة التساقطات، بل يرتبط كذلك باختيارات تنموية غير منسجمة مع الإمكانيات المائية المتاحة، خصوصًا تلك التي جعلت من الفلاحة التصديرية أولوية، دون مراعاة الضغط المائي الهائل الذي تخلقه.
فرغم أن القطاع الفلاحي يستهلك أكثر من 85% من المياه، ما زالت الاستثمارات تتوجه نحو محاصيل ذات استهلاك مرتفع للماء كالأفوكادو والبطيخ، حتى في مناطق تعاني من ندرة هيكلية. بذلك، يجد المغرب نفسه أمام معضلة تنموية يصعب حلها: كيف يمكن تحقيق النمو الاقتصادي في بلد تتناقص فيه موارده الحيوية بسرعة مقلقة؟
حكامة مائية متعثّرة ومؤسسات بلا تنسيق
في العمق، لا تكمن أزمة الماء في المغرب فقط في التراجع الطبيعي للمورد، بل في ضعف المنظومة المؤسساتية التي تُفترض بها تدبيره. فالحكامة المائية تتسم بتعدد الفاعلين وتشتت المسؤوليات، دون تنسيق فعلي أو استراتيجية موحّدة. الوزارات، والمجالس الجهوية، ووكالات الأحواض، والمؤسسات العمومية، تعمل كل منها بمعزل عن الأخرى، ما ينتج ارتباكًا في القرار ويضعف فعاليته.
يبرز هذا الخلل في غياب المجلس الأعلى للماء والمناخ، الذي لم يُعقد منذ سنة 2001 رغم ما يشهده البلد من توترات مائية متصاعدة. كما أن الشرطة المائية، التي يُفترض أن تراقب الاستعمالات غير القانونية وتلوث المياه، تفتقر إلى الوسائل البشرية والتقنية الكفيلة بفرض احترام القانون. والأدهى أن البيانات المتعلقة بالماء ما تزال مشتتة بين المؤسسات، وغير محدّثة، مما يعقّد مهمة التخطيط الاستراتيجي ويؤدي إلى تداخل القرارات واختلال الأهداف.
الماء كورقة سيادية في معادلات الجغرافيا السياسية
في زمن التغير المناخي والصراعات الجيوسياسية، لم يعد الماء مجرّد مورد بيئي، بل أصبح أحد أوجه السيادة الحديثة. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي تُعد من بين أشد المناطق جفافًا ، يتحول الماء إلى عامل حاسم في رسم التوازنات. بالنسبة للمغرب، فإن غياب القدرة على تأمين الموارد المائية يجعل البلاد في موقع ضعف على عدة أصعدة.
فارتباط المغرب بفلاحة موجهة للتصدير، تتطلب كميات هائلة من المياه، في مقابل لجوئه المتزايد إلى تحلية مياه البحر، التي تُعد تقنية مكلفة طاقيًا وبيئيًا، يضعه أمام خيارات استراتيجية محدودة. إضافة إلى ذلك، فإن ضعف التحكم في المورد المائي الداخلي ينعكس سلبًا على موقع المغرب التفاوضي في الملفات المناخية، ويحد من حضوره كفاعل إقليمي مستقل قادر على الدفاع عن مصالحه الحيوية.
نحو استعادة السيادة المائية: رؤية بديلة ضرورية
من أجل إعادة بناء السيادة المائية، لا يمكن الاقتصار فقط على الاستمرار في منطق التوسيع الكمي للبنية التحتية، بل يجب تغيير النموذج جذريًا، لا يتعلق الأمر فقط ببناء سدود جديدة أو تشييد محطات تحلية، بل بضرورة وضع رؤية متكاملة تربط بين الاقتصاد والسيادة والعدالة البيئية.
تتطلب المرحلة المقبلة سياسة زراعية جديدة تحد من الزراعات المستنزفة وتوجه الدعم نحو المحاصيل ذات البصمة المائية المنخفضة. كما أن إعادة استعمال المياه العادمة يجب أن تصبح خيارًا وطنيًا استراتيجيًا، وليس فقط حلًا ظرفيًا. وفي المقابل، يجب مراجعة تسعيرة الماء بطريقة تصاعدية تضمن الاستدامة وتراعي الفئات الهشة، مع تعميم ثقافة الترشيد في المدارس والجامعات، وتحفيز المواطنين على تبنّي سلوكيات مائية مسؤولة.
الأهم من ذلك كله هو ضرورة إحداث نظام وطني موحّد للمعطيات المتعلقة بالماء، من أجل تمكين الفاعلين العموميين والمحليين من اتخاذ قرارات مبنية على معطيات دقيقة، وتحقيق تفاعل تشاركي بين الدولة والمجتمع في تدبير هذا المورد المصيري.