المستقبل… بين الحرية والهيمنة
وعند قراءة تاريخ إيران خلال القرن الماضي، يمكن تمييز ثلاثة تيارات رئيسية شكّلت علاقة المجتمع بالحجاب، وكل تيار منها يعكس رؤيته الخاصة للهوية والحرية ومكانة الفرد، خصوصاً المرأة.
التيار الأول: الحداثة القسرية في عهد بهلوي
في أواخر العقد 1300 الهجري الشمسي، فرض رضا شاه سياسة “كشف الحجاب” باعتبارها خطوة نحو “التحديث”. لكن هذا التحديث كان إكراهاً مبطناً بالعنف الرمزي والمادي، حيث أُجبرت نساء كثيرات على خلع الحجاب بقوة السلطة، لا بقوة الاختيار. وقد وثّقت مذكرات نساء تلك المرحلة، إلى جانب وثائق رسمية وتقارير اجتماعية، حجم الألم الذي خلفه هذا التدخل في الحياة الشخصية، وما صاحبه من شعور بانتهاك الكرامة.
لقد قدم هذا التيار شكلاً أحاديّاً للحرية؛ حرية تُفرض من الأعلى، تحمل في جوهرها تناقضاً واضحاً: كيف يمكن للإجبار أن يكون طريقاً إلى التحرر؟
التيار الثاني: الإلزام باسم الدين بعد ثورة 1979
مع انتصار الثورة، انقلب المشهد دون أن يتغيّر جوهره. فبدلاً من “الإجبار على خلع الحجاب”، أصبح “الإجبار على ارتدائه”. ومنذ 1980، تكرّس الحجاب الإجباري كجزء أساسي من السياسات الثقافية للنظام الجديد، مدعوماً بقوانين جنائية، ودوريات رقابية، وإجراءات أمنية وإدارية.
وبات الملبس—للنساء وللرجال أيضاً—أداة من أدوات الرقابة الاجتماعية. فكما خضعت النساء لرقابة مشددة على اللباس، واجه الرجال بدورهم قيوداً على مظهرهم وتسريحات شعرهم وأنماط لباسهم. وهكذا تحولت المسألة من شأن فردي إلى وسيلة تُستخدم لترسيخ شكل معيّن من الانضباط الاجتماعي.
التيار الثالث: الحرية بوصفها حقاً إنسانياً أصيلاً
في مواجهة هذين النموذجين، يبرز تيار ثالث، شعبي وديمقراطي في جوهره، يطالب بحرية الاختيار دون قيد. هذا التيار، الذي تمثله قطاعات واسعة من المجتمع الإيراني، يرى أن اختيار الملبس حق شخصي لا يجوز للدولة أو لأي سلطة أن تنتزعُه من الفرد. وقد كشفت الدراسات الحديثة عن تزايد كبير في تأييد هذا المبدأ بين الشباب وناشطي حقوق المرأة، وحتى بين شرائح عاشت التجربتين السابقتين.
إن هذا التوجه لا يسعى إلى “فرض نزع الحجاب” كما يطرح البعض، ولا إلى الإبقاء على “إلزامية الحجاب” كما يريد آخرون، بل يدافع عن حق الإنسان في اتخاذ قراره بنفسه، بوصفه حقاً مرتبطاً بكرامته وحرّيته الشخصية.
وقد يبدو النقاش حول الحجاب في ظاهره موضوعاً يتعلق باللباس، لكنه في عمقه يعكس سؤالاً أكبر: هل تستطيع الدولة أن تحترم حرية مواطنيها في أبسط تفاصيل حياتهم؟ التجربة التاريخية في إيران تُظهر أن كل تدخل حكومي في الملبس، كان يقترن دوماً بزيادة في سلطوية النظام وتراجع في مساحة الحرية.
ومن هذا المنطلق، فإن الصيحات الراديكالية التي تطالب اليوم بـ “إزالة الحجاب بالكامل” ليست سوى صورة أخرى من صور الإكراه، حتى وإن جاءت كردّ فعل على السلطة القائمة. فالحرية ليست نقيض الحجاب، بل نقيض الإجبار.
ولن تُبنى الديمقراطية في إيران—أو في أي مجتمع—على أساس متين ما لم تُصن حرية الفرد في اختيار ما يرتديه، كما يختار أفكاره ومعتقداته وطريقة حياته. فحرية الملبس ليست قضية نسوية فحسب، ولا معركة سياسية فقط، بل هي حق إنساني شامل، ومدخل أساسي لاحترام كرامة الإنسان ومنع تغوّل السلطة.
إن مستقبل إيران سيتشكل، بلا شك، بناءً على مدى قدرة مجتمعها على تبني هذا المبدأ البسيط:
الاختيار حق، والإجبار… مهما كان شكله، هو الوجه الآخر للهيمنة.
التيار الأول: الحداثة القسرية في عهد بهلوي
في أواخر العقد 1300 الهجري الشمسي، فرض رضا شاه سياسة “كشف الحجاب” باعتبارها خطوة نحو “التحديث”. لكن هذا التحديث كان إكراهاً مبطناً بالعنف الرمزي والمادي، حيث أُجبرت نساء كثيرات على خلع الحجاب بقوة السلطة، لا بقوة الاختيار. وقد وثّقت مذكرات نساء تلك المرحلة، إلى جانب وثائق رسمية وتقارير اجتماعية، حجم الألم الذي خلفه هذا التدخل في الحياة الشخصية، وما صاحبه من شعور بانتهاك الكرامة.
لقد قدم هذا التيار شكلاً أحاديّاً للحرية؛ حرية تُفرض من الأعلى، تحمل في جوهرها تناقضاً واضحاً: كيف يمكن للإجبار أن يكون طريقاً إلى التحرر؟
التيار الثاني: الإلزام باسم الدين بعد ثورة 1979
مع انتصار الثورة، انقلب المشهد دون أن يتغيّر جوهره. فبدلاً من “الإجبار على خلع الحجاب”، أصبح “الإجبار على ارتدائه”. ومنذ 1980، تكرّس الحجاب الإجباري كجزء أساسي من السياسات الثقافية للنظام الجديد، مدعوماً بقوانين جنائية، ودوريات رقابية، وإجراءات أمنية وإدارية.
وبات الملبس—للنساء وللرجال أيضاً—أداة من أدوات الرقابة الاجتماعية. فكما خضعت النساء لرقابة مشددة على اللباس، واجه الرجال بدورهم قيوداً على مظهرهم وتسريحات شعرهم وأنماط لباسهم. وهكذا تحولت المسألة من شأن فردي إلى وسيلة تُستخدم لترسيخ شكل معيّن من الانضباط الاجتماعي.
التيار الثالث: الحرية بوصفها حقاً إنسانياً أصيلاً
في مواجهة هذين النموذجين، يبرز تيار ثالث، شعبي وديمقراطي في جوهره، يطالب بحرية الاختيار دون قيد. هذا التيار، الذي تمثله قطاعات واسعة من المجتمع الإيراني، يرى أن اختيار الملبس حق شخصي لا يجوز للدولة أو لأي سلطة أن تنتزعُه من الفرد. وقد كشفت الدراسات الحديثة عن تزايد كبير في تأييد هذا المبدأ بين الشباب وناشطي حقوق المرأة، وحتى بين شرائح عاشت التجربتين السابقتين.
إن هذا التوجه لا يسعى إلى “فرض نزع الحجاب” كما يطرح البعض، ولا إلى الإبقاء على “إلزامية الحجاب” كما يريد آخرون، بل يدافع عن حق الإنسان في اتخاذ قراره بنفسه، بوصفه حقاً مرتبطاً بكرامته وحرّيته الشخصية.
وقد يبدو النقاش حول الحجاب في ظاهره موضوعاً يتعلق باللباس، لكنه في عمقه يعكس سؤالاً أكبر: هل تستطيع الدولة أن تحترم حرية مواطنيها في أبسط تفاصيل حياتهم؟ التجربة التاريخية في إيران تُظهر أن كل تدخل حكومي في الملبس، كان يقترن دوماً بزيادة في سلطوية النظام وتراجع في مساحة الحرية.
ومن هذا المنطلق، فإن الصيحات الراديكالية التي تطالب اليوم بـ “إزالة الحجاب بالكامل” ليست سوى صورة أخرى من صور الإكراه، حتى وإن جاءت كردّ فعل على السلطة القائمة. فالحرية ليست نقيض الحجاب، بل نقيض الإجبار.
ولن تُبنى الديمقراطية في إيران—أو في أي مجتمع—على أساس متين ما لم تُصن حرية الفرد في اختيار ما يرتديه، كما يختار أفكاره ومعتقداته وطريقة حياته. فحرية الملبس ليست قضية نسوية فحسب، ولا معركة سياسية فقط، بل هي حق إنساني شامل، ومدخل أساسي لاحترام كرامة الإنسان ومنع تغوّل السلطة.
إن مستقبل إيران سيتشكل، بلا شك، بناءً على مدى قدرة مجتمعها على تبني هذا المبدأ البسيط:
الاختيار حق، والإجبار… مهما كان شكله، هو الوجه الآخر للهيمنة.
الرئيسية























































