عقود من التفاوض مع القوى الكبرى لم تكن بالنسبة له سوى وسيلة لربح الوقت وتوسيع أدوات السيطرة. في كل مرة يُلوَّح فيها بالتفاوض، يعود النظام إلى قواعده القديمة: المناورة، والإنكار، والتقدم في السرّ. وقد كانت المفاوضات حول برنامجه النووي نموذجًا لهذا السلوك، حيث استُخدمت طاولات الحوار غطاءً لمشاريع تطوير الأسلحة والتسلح النوعي.
لكن المشهد بدأ يتغير، لا بسبب تحول في نوايا النظام، بل بفعل ضعف أدواته وتآكل نفوذه. لم تعد أذرعه الخارجية، التي طالما ساعدته على زعزعة استقرار دول الجوار، فاعلة كما في السابق. تراجع تأثير الحشد الشعبي، وحزب الله، والحوثيين، وتدهور مكانة النظام السوري، كلها مؤشرات على انهيار تدريجي لبنيته الإقليمية.
ومع هذا التراجع الخارجي، يتفاقم الخطر الحقيقي في الداخل. الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها إيران خلال السنوات الأخيرة لم تكن عابرة. شعارات الشارع تجاوزت المطالب المعيشية، لتلامس جوهر النظام السياسي وتُطالب بإسقاطه. لم يعد الاحتجاج يقتصر على فئة دون أخرى، بل أصبح معممًا ومتجذرًا في شرائح المجتمع كافة، خاصة في ظل توسّع الفقر، والفساد، والتفاوت الطبقي، وانهيار الثقة في مؤسسات الدولة.
في هذا السياق، تبرز دينامية مقاومة منظمة وغير تقليدية تنبع من الداخل، وليس من المنفى فقط. وحدات الانتفاضة النشطة، المنسقة ضمن المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، تمثل نموذجًا جديدًا في العمل السياسي المعارض: شبكات لامركزية، فعالة، ومتصلة بالنبض الشعبي. وهي بذلك تتجاوز الشكل الكلاسيكي للمعارضة التي تعاني عادة من الانفصال عن الواقع الداخلي.
يجد النظام نفسه اليوم في مأزق غير مسبوق: ضغوط داخلية تنخر شرعيته، وتراجع خارجي يُفقده مبررات وجوده الإقليمي. في المقابل، يقف الغرب عند مفترق طرق: الاستمرار في سياسة المهادنة التي لم تُنتج سوى المزيد من التصعيد، أم الانخراط الجاد في دعم بدائل ديمقراطية وشعبية داخل إيران، تلك التي تستند إلى قيم العدالة وحقوق الإنسان لا إلى توازنات نفوذ هشة.
المؤشرات جميعها تؤكد أن الوضع لم يعد يحتمل تدوير الزوايا. خيارات النظام باتت محدودة، ومسألة بقائه مسألة وقت أكثر منها مسألة قرار. على الأرض، تتشكل ملامح مرحلة جديدة قد تحدد مصير البلاد لعقود. وربما يكون عام 2025 لحظة مفصلية، تضع فيها إيران حدًّا لنظام ديني حَكم بالحديد والنار، ليُفسح المجال أمام عهد تُبنى فيه الجمهورية على إرادة الناس لا على خوفهم.