وفي بلد يستهلك فيه القطاع الفلاحي أكثر من 85% من الموارد المائية، لم يكن التوسع في زراعة محاصيل عالية الاستهلاك مثل الأفوكادو والحوامض والفواكه الحمراء خياراً تقنياً محايداً. بل كان قراراً يحمل في طيّاته تبعات بيئية واجتماعية تتكشف اليوم بوضوح: استنزاف متسارع للفرشات الجوفية، تهميش للفلاحين الصغار، وتهديد لاستقرار المجتمعات القروية.
هذا المقال يسعى إلى تفكيك خلفيات هذا النموذج، وفتح النقاش حول مخرجات بديلة من أجل مغرب أكثر عدالة مائية، وسيادة زراعية أكثر اتزانًا مع الواقع البيئي.
فِلاحة على أنقاض الفرشة المائية
منذ انطلاق "مخطط المغرب الأخضر"، شهدت الفلاحة المغربية قفزة نوعية في التحديث التقني، خصوصاً على مستوى الري الموضعي وتشجيع المستثمرين الكبار. لكن هذه الدينامية جاءت على حساب المورد المائي، إذ تم تخصيص أكثر من 85% من المياه لري محاصيل موجهة للتصدير، غالباً في مناطق تعاني من هشاشة مائية مزمنة.
في سوس واشتوكة، تُروى آلاف الهكتارات من الأفوكادو والطماطم عبر آبار عميقة تستنزف الفرشات المائية بوتيرة مقلقة. ورغم أن تقنيات الري بالتنقيط حسّنت من كفاءة الاستخدام، إلا أن المياه التي تم "توفيرها" لم تُستخدم لترشيد الاستهلاك، بل استُغلت لتوسيع المساحات المزروعة، ما خلق ما يُعرف بـ"الارتداد المائي"؛ أي زيادة الطلب بدل تقليله.
أرباح قصيرة المدى، خسائر طويلة الأمد
كثيراً ما يُروَّج لفكرة أن الفلاحة التصديرية تخلق فرص شغل وتساهم في تنمية القرى. غير أن الواقع الميداني يكشف عن هشاشة متزايدة في الأرياف، حيث بات صغار الفلاحين يواجهون صعوبات متزايدة في الاستمرار، بسبب ارتفاع كلفة استخراج المياه وغياب الدعم الكافي.
في منطقة اشتوكة، انخفض منسوب المياه الجوفية بـ30 متراً خلال أربعة عقود، ما دفع العديد من الفلاحين إلى ترك أراضيهم. في الوقت نفسه، ساهمت الفلاحة التصديرية في تراجع الزراعات الغذائية الأساسية مثل القمح والعدس، ما جعل الأمن الغذائي الوطني أكثر ارتباطاً بالأسواق الخارجية.
وهكذا، تحوّلت الفلاحة من قطاع يُفترض أن يدعم الاستقرار المجالي إلى عامل يُفاقم الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية.
سياسات لا تواكب التحولات المناخية
رغم أن المغرب عرف أطول موجة جفاف في تاريخه الحديث ما بين 2018 و2023، واصلت السياسات الفلاحية تشجيع التوسع في الزراعات المروية، حتى في المناطق المتضررة مائياً. استُمر في تقديم الدعم العمومي دون ربطه بشروط واضحة تخص نجاعة استخدام المياه أو ملاءمة الزراعات مع الخصوصيات البيئية لكل جهة.
كما أن النجاح التقني المحقّق في تقنيات الري لم يُواكبه إصلاح شامل في الرؤية والسياسات، مما جعل الخطاب البيئي في واد، والممارسات الفعلية في واد آخر.
تصدير الماء في عبوات فاكهة
يُقدَّم القطاع الفلاحي كمصدر مهم للصادرات، إذ يُساهم بـ23% منها. لكن خلف هذه الأرقام الإيجابية ظاهرياً، هناك حقيقة بيئية مسكوت عنها: المغرب يُصدّر مياهه في شكل منتجات فلاحية.
كل طن من الأفوكادو، مثلاً، يستهلك آلاف الأمتار المكعبة من الماء. سنة 2021، صدّر المغرب أزيد من 42 ألف طن من هذه الفاكهة إلى أوروبا، في وقت كانت فيه بعض المناطق الداخلية تعاني من انقطاعات متكررة في الماء الصالح للشرب.
هذا "النجاح" يتحقق بتكلفة بيئية واجتماعية عالية، ومن خلال دعم مالي عمومي لا يستفيد منه سوى جزء محدود من الفاعلين، بينما تتحمّل القرى ومواسم الجفاف الكلفة الأكبر.