حياتنا

من الفضاء الرقمي إلى الشارع : كيف أصبح "ديسكورد" وسيلة تنظيمية لاحتجاجات جيل زد


لم تعد أشكال الاحتجاج في المغرب تشبه تلك التي عرفتها الأجيال السابقة، فشباب اليوم أصبح أكثر قدرة على استخدام الأدوات الرقمية للتعبير عن مطالبه، مستفيدًا من الفراغ الذي خلفه انعدام الثقة في المؤسسات التقليدية وغياب النقاش العمومي البنّاء. جيل زاد، المزداد بين 1997 و2012، والذي يشكل اليوم كتلة ديمغرافية هامة تتجاوز ثمانية ملايين مغربي، لم يعد يثق في الفاعلين السياسين. هذا الفراغ سمح بظهور فضاءات رقمية جديدة، أبرزها ديسكورد وتيليغرام، و التي تحولت إلى ساحات عمومية بديلة يمكن فيها للشباب تنظيم أنفسهم وتبادل الأفكار وصياغة استراتيجيات للاحتجاج، بعيدًا عن الأساليب التقليدية



ديسكورد.. من منصة ألعاب إلى أداة لتنظيم الاحتجاجات
 

عندما أطلق "ديسكورد" سنة 2015، كان الهدف الأساسي منه تسهيل التواصل بين هواة ألعاب الفيديو، لكن المنصة تحولت بسرعة إلى أداة فعالة للتنسيق الرقمي على نطاق واسع. من خلال نظام الخوادم (serveurs) التي يمكن أن تضم نصف مليون مستخدم، وقنوات فرعية متخصصة أشبه بمنتديات مصغرة، تمكن الشباب من خلق مساحات  للتواصل بعيدًا عن أعين السلطات، وبدون الاعتماد على الهياكل التقليدية التي لم تعد تثير ثقتهم.
 

تجربة نيبال مثال واضح : بعد حظر 26 منصة تواصل اجتماعي، لجأ الشباب إلى "ديسكورد" لإطلاق خادم "شباب ضد الفساد"، الذي تحول إلى غرفة عمليات افتراضية حقيقية، تُخطط فيها التحركات وتُنسق الاحتجاجات. في المغرب، بدأ خادم "جيل زد 212" بعدد محدود من المشاركين، ثم ارتفع العدد بسرعة ليضم اليوم أكثر من 150 ألف عضو، أغلبهم من الفئة العمرية 15-28 عامًا، أي أن جميع المشاركين تقريبًا من جيل زد.

 

احتضار النقاش العمومي وظهور البديل الرقمي
 

تحول الشباب المغربي نحو هذه المنصات يعكس أزمة أعمق في المشهد السياسي الوطني:  فقدان الثقة في الأحزاب السياسية والنقابات، التي لم تعد مقراتها  المكان الذي يُصاغ فيه النقاش حول قضايا التعليم والصحة والشغل. بدلاً من ذلك، صارت سيرفرات ديسكورد وقنوات تيليغرام تقوم بهذا الدور، بطريقة أكثر تفاعلية ، تمكّن كل مشارك من الإدلاء برأيه، ومناقشة الواقع الاجتماعي بشكل ديمقراطي ومباشر.
 

وبالتالي أصبح النقاش داخل هذه المنصة يتم فيه  تبادل معلومات دقيقة وأرقامًا موثقة، من معدلات الاكتظاظ في المدارس ونسب العجز في المستشفيات، إلى قضايا الفساد وسوء التدبير المالي والإداري . بهذا المعنى، أصبح الشباب يمارسون "صحافة المواطن"، ويساهم كل منهم في توثيق الواقع وصياغة خطاب جماعي يلتقط نبض الشارع بطريقة لم تستطع الوسائط التقليدية تحقيقها.

 

أفقية القرار بدل القيادة التقليدية
 

أحد أبرز السمات في هذا الشكل الجديد من الاحتجاج هو غياب القيادة المركزية. في خادم "جيل زد 212" المغربي، جميع القرارات تُتخذ عبر تصويت جماعي للأعضاء، وهو ما يجعل الجميع "سواسية" ويقطع مع فكرة وجود قيادة محددة أو زعيم كاريزمي. هذا النموذج يمنح مرونة كبيرة ويشجع على المشاركة الفعلية، لكنه يطرح في الوقت نفسه تحديات كبيرة من حيث القدرة على التواصل مع الحكومة، التي اعتادت التعامل مع ممثلين رسميين يمكن تحميلهم المسؤولية، بينما في هذه الحالة لا يوجد تنظيم محدد أو  "ممثلين" واضحين للحركة.
 


من الافتراضي إلى الواقعي : نسبة المشاركة في الاحتجاجات
 

على الرغم من أن المنصات الرقمية تجذب عشرات الآلاف، فإن نسبة من ينزلون فعليًا إلى الشارع تبقى محدودة نسبيًا. في المغرب، من بين 1,500 عضو نشط على ديسكورد، شارك فقط المئات من الأشخاص  المظاهرات التي عرفتها مدن متفرقة ، وهو معدل مشاركة يشبه ما لوحظ في الاحتجاجات الرقمية عالميًا. ومع ذلك، فإن هذا العدد يكفي لتحويل التفاعل الرقمي إلى فعل ميداني ملموس، ويُظهر مدى قوة المنصات الرقمية في تعبئة الشارع حتى ولو جزئيًا.
 

كما أن الفضاء الرقمي هنا لا يقتصر على التنظيم فقط ، بل يعمل على تعزيز هوية موحدة للشباب، من خلال رموز رقمية مثل "الميمز" والإيموجي والأنمي، التي تساهم في توحيد الصفوف وخلق شعور بالانتماء بين أعضاء الحركة.
 

أزمة الثقة تكشف أزمة العقد الاجتماعي
 

اختيار جيل زد المغربي الاحتجاج الرقمي ليس مجرد قرار تقني أو تنظيمي، بل هو انعكاس لأزمة عميقة في العقد الاجتماعي. هذا الجيل لا يرى نفسه في الخطابات الرسمية ولا في الوعود المتكررة للحكومات، ويعي تمامًا أن التفاوتات الاجتماعية تضرب في العمق. الطبقة الوسطى تتآكل، والبطالة وارتفاع تكاليف المعيشة وغياب العدالة في توزيع الخدمات العامة ترك الشباب يبحث عن بدائل للتعبير عن مطالبه.
 

حتى الخطاب الملكي الأخير حول "سير المغرب بسرعتين" لم يخفف من  ثقل هذا الإحساس، بل أكد للشباب أن ما يعيشونه ليس مجرد إحساس فردي، بل أزمة حقيقية ومعترف بها من أعلى سلطة في البلاد ، وهو ما جعل المنصات الرقمية اليوم أكثر جذبًا  للنقاش العمومي والعمل الجماعي.
 

هشاشة الاحتجاج الرقمي :  بين الانخراط السهل والمخاطر الأمنية
 

رغم القوة والمرونة التي يمنحها هذا الشكل الرقمي من التعبير والاحتجاج، إلا أنه يظل هشًا بطبيعته، سهولة الانخراط قد تعني سهولة الانسحاب، كما أن غياب جمعيات المجتمع المدني وهيئات حقوقية يفتح المجال أمام اختراقات خارجية أو انحرافات عن المسار السلمي. السلطات تجد صعوبة في التعامل مع حركة بلا تمثيل واضح، ما قد يدفعها للاعتماد على الحل الأمني، ومع ذلك، فإن أي تصعيد قد يزيد من حدة الغضب بدل احتوائه.

 


لا جدال في أن جيل زاد في المغرب أعاد رسم ملامح الاحتجاج والمشاركة السياسية، مستفيدًا من الفضاء الرقمي لتعويض الفراغ الناتج عن فقدان الثقة في المؤسسات التقليدية وغياب النقاش العمومي البنّاء. فقد تحولت منصات مثل ديسكورد وتيليغرام إلى أدوات فعالة للتنسيق وتنظيم التحركات، مرتكزة على أفقية القرار والتصويت الجماعي، ما يعزز شعور الشباب بالانتماء والمسؤولية المشتركة، ويمنحهم القدرة على صياغة خطاب جماعي يعكس طموحاتهم ومطالبهم بشكل مباشر

في المجمل، تجربة جيل زاد الرقمي تعكس قدرة الشباب المغربي على تحويل الفراغ السياسي والمؤسساتي التي تعرفه البلاد إلى فرصة لإعادة إحياء مشهذ سياسي مهترء وباهت ، مؤكدة أن الأمل في تغيير الواقع ليس مرتبطًا فقط بالوسائل التقليدية، بل يمكن أن ينبع من حسن استعلال المنصات الرقمية لصياغة مستقبل يشارك فيه الجميع، ويستجيب لتطلعات جيل كامل لم يعد يقبل أن يكون صوته مقموعا وغير مسموع.


Aicha Bouskine
عائشة بوسكين صحافية خريجة المعهد العالي للإعلام والاتصال، باحثة في العلوم السياسية وصانعة محتوى في إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الجمعة 3 أكتوبر 2025

              

آخر الأخبار | حياتنا | صحتنا | فن وفكر | لوديجي ستوديو | كتاب الرأي | أسرتنا | تكنو لايف | بلاغ صحفي | لوديجي ميديا [L'ODJ Média] | المجلة الأسبوعية لويكاند | اقتصاديات | كلاكسون


Bannière Réseaux Sociaux

Bannière Lodj DJ























Buy cheap website traffic