الواقع أن اللعب يشكل البيئة الأولى التي يتعلم فيها الطفل التفاعل مع محيطه، ويكتسب قواعد الحياة من خلال الممارسة العملية: احترام الأدوار، انتظار الفرصة، التعاون، إدارة الصراع، والتعبير عن الذات. هذه "المهارات الناعمة" التي تزخر بها بيئة اللعب أصبحت اليوم مطلبًا ملحًا لسوق العمل الحديث، وغالبًا ما تغيب عن برامج التعليم التقليدية، ما يطرح تساؤلات جدية حول جدوى نظامنا التعليمي الذي يركز على الحفظ والمادة النظرية على حساب بناء الشخصية المتكاملة.
في المغرب، لا يختلف الوضع كثيرًا عن دول أخرى، حيث لا تزال المدارس تميل إلى التقليل من أهمية اللعب، بل تُعتبره مضيعة للوقت، ما يحرم الكثير من الأطفال من فرصة تطوير مهاراتهم بشكل طبيعي ومتوازن. الدراسات التربوية الحديثة تشير إلى أن دمج اللعب في البيئة التعليمية يرفع من مستوى التفاعل والفهم ويجعل العملية التعليمية أكثر إنسانية وفعالية. الطفل في بيئة محفزة يستطيع أن يتعلم بحرية، بعيدًا عن رهبة التقييم والضغط النفسي، ما يعزز قدراته على استيعاب المعرفة والابتكار.
الأمر لا يقتصر على المدارس فقط، بل يشمل الأسرة والمجتمع بأكمله، حيث يمكن لكل فرد ومؤسسة أن يساهم في خلق مساحات آمنة للعب. لا يتطلب هذا استثمارات ضخمة بقدر ما يتطلب رؤية واضحة وإرادة صادقة في توفير الوقت والمكان والظروف المناسبة. البلديات والمجالس المحلية والمبادرات المجتمعية هي مفاتيح لتمكين الطفل من اللعب الحر، ما يسهم في بناء جيل صحي نفسيًا واجتماعيًا.
في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه العالم، من أوبئة إلى أزمات اقتصادية واجتماعية، يشكل اللعب متنفسًا للأطفال ليعيشوا لحظات من الحرية والتعبير والابتكار. الأطفال الذين يجدون الوقت والمساحة للعب يكتسبون مهارات التكيف مع الضغوط ويطورون مناعتهم النفسية تجاه المشكلات المحيطة بهم، ما يجعل من اللعب استراتيجية غير مباشرة لتعزيز الصحة النفسية العامة.
و بالتالي، لا يمكن النظر إلى اليوم العالمي للعب كموعد عابر أو ترفيه، بل كنداء مستمر لإعادة الاعتبار إلى هذا الحق الأساسي، الذي يعزز النمو المتوازن ويُسهم في تشكيل مستقبل أكثر إنسانية. في زمن تتغير فيه المعايير وتتزايد فيه التحديات، يبقى اللعب هو اللغة المشتركة التي تسمح للأطفال بأن يكونوا هم أنفسهم، بحرية وصدق. علينا جميعًا أن نعيد التفكير في مواقفنا تجاه اللعب، ليس كرفاهية بل كضرورة حيوية يجب أن تحتل مكانها في بيوتنا ومدارسنا ومجتمعاتنا.
من هنا، ينبع التحدي الحقيقي: كيف نعيد تنظيم بيئاتنا التعليمية والاجتماعية لتصبح ملاذًا للعب والابتكار، وليس مجرد أماكن للحفظ والتلقين؟ وهل نحن مستعدون لمنح الأطفال فرصة أن يتعلموا ليس فقط من الكتب، بل من خلال اللعب الذي يبني عقولًا مرنة وقلبًا واعيًا؟ الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد شكل مستقبلنا ومستقبل أجيالنا القادمة