ويُعد هذا الموقف البريطاني تحولًا كبيرًا في سياسة المملكة المتحدة، التي لطالما التزمت موقفًا متحفظًا أو محايدًا حيال هذا الملف المعقد. انضمام لندن إلى ركب العواصم الداعمة – وعلى رأسها واشنطن وباريس ومدريد – يعكس تنامي القناعة الدولية بأن الحل المقترح من طرف المغرب هو السبيل الأنجع لتسوية هذا النزاع الطويل الذي يعوق التنمية والاستقرار في المنطقة المغاربية.
اتفاقيات اقتصادية وتعاون استراتيجي يعززان الموقف الجديد
لا يقتصر الإعلان البريطاني على البعد السياسي، بل يأتي في سياق دينامية ثنائية جديدة بين البلدين، حيث تم توقيع حزمة من اتفاقيات التعاون تشمل مجالات حيوية مثل الصحة العمومية، والابتكار، والبنية التحتية، وتطوير الموانئ. وتهدف هذه الاتفاقيات إلى تعميق الشراكة الاستراتيجية بين الرباط ولندن، مع تركيز خاص على تعزيز الاستثمار في الأقاليم الجنوبية للمملكة.
هذا الانفتاح البريطاني على الجنوب المغربي، الذي يُرتقب أن يكون محورا تنموياً رئيسياً في أفق تنظيم كأس العالم 2030، يمثل إشارة واضحة إلى اعتراف بريطانيا بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية وتطلعها للاستفادة من الفرص الاستثمارية التي تتيحها المنطقة.
الجزائر تستشيط غضباً بعد دعم لندن لمقترح الحكم الذاتي المغربي
لم يمرّ الموقف البريطاني دون رد فعل جزائري، إذ سارعت وزارة الخارجية الجزائرية إلى إصدار بيان تعبر فيه عن "أسفها" للدعم البريطاني لمبادرة الحكم الذاتي. وقال البيان إن الجزائر "أخذت علماً بالموقف الجديد"، معبّرة عن انزعاجها من دعم لندن لمقترح قالت إنه "لم يُعرض قط على الصحراويين كأساس للتفاوض"، في تجاهل واضح لمسارات الأمم المتحدة ولتزايد عدد الدول الداعمة للمبادرة المغربية.
ويكشف هذا البيان عن استمرار الجزائر في رفض المقاربات الواقعية، رغم التغيرات الدولية العميقة في المواقف من ملف الصحراء. كما يُظهر إصرارها على التمسك بسرديات لم تعد تجد لها صدى لدى أغلب العواصم المؤثرة. المفارقة أن الخطاب الجزائري يواصل التشكيك في نوايا المغرب، متهمًا الرباط بـ"كسب الوقت" رغم انخراطها الكامل في المسار الأممي ودعمها لجهود المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة.
مراكز التفكير البريطانية مهدت الطريق للموقف الرسمي
لم يكن الموقف البريطاني الجديد وليد اللحظة، بل جاء نتيجة تبلور موقف فكري واستراتيجي داخل النخب البريطانية، فقد سبق لمنتدى كامبريدج للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التابع لجامعة كامبريدج العريقة، أن نشر تقريرًا شاملاً وصف فيه مبادرة الحكم الذاتي المغربية بـ"الخيار الوحيد القابل للتطبيق" والذي يضمن التوازن بين احترام السيادة الوطنية والاعتراف بخصوصيات المنطقة.
ودعا التقرير آنذاك الحكومة البريطانية إلى اتخاذ موقف أكثر وضوحًا وانخراطًا في دعم هذا الخيار، معتبرا أن حياد المملكة المتحدة لم يعد يتماشى مع مواقف شركائها الدوليين، ولا مع منطق حل النزاعات المزمنة في ظل المتغيرات الجيوسياسية التي تعرفها المنطقة.
آثار دبلوماسية وإستراتيجية تتجاوز النزاع
الدعم البريطاني الرسمي لمبادرة الحكم الذاتي ليست له تداعيات سياسية فحسب، بل يحمل أبعادا استراتيجية أوسع، من أبرزها تعزيز الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء، ومكافحة التهديدات الأمنية العابرة للحدود مثل الإرهاب والهجرة غير النظامية. كما يساهم هذا الموقف في تقوية محور الرباط – لندن – مدريد، الذي يكتسب زخماً متزايداً في سياق التعاون الأورومتوسطي وإعادة هيكلة التحالفات الإقليمية في شمال إفريقيا.
من جهة أخرى، يمكن اعتبار هذا الاعتراف عاملاً ضاغطاً على الأطراف المتشبثة بمواقف متصلبة، خصوصاً الجزائر وجبهة البوليساريو، من أجل إعادة النظر في مواقفها والانخراط في عملية سياسية واقعية تفضي إلى حل دائم يخدم مصالح الشعوب المغاربية في التنمية والاندماج.
في ظل التحولات المتسارعة في المواقف الدولية من قضية الصحراء، يكرّس الموقف البريطاني الأخير المشروعية الدولية المتنامية لمبادرة الحكم الذاتي، ويضع المغرب في موقع دبلوماسي أكثر قوة، خصوصاً قبيل استحقاقات كبرى مثل تنظيم كأس العالم 2030، التي ستجعل من الأقاليم الجنوبية واجهة حضارية واقتصادية للمملكة.
ومع تزايد عدد الدول الكبرى الداعمة للحل المغربي، تزداد عزلة الطروحات الانفصالية، في وقت باتت فيه الواقعية السياسية والبراغماتية الدبلوماسية هي العنوان الأبرز للمرحلة المقبلة