هذا التناقض الصارخ يظهر الوجه القاتم لتقدم المغرب، والذي سبق لجلالته أن وصفه بالسير بسرعتين؛ بينما تزدهر السياحة وتنمو، تتحطم المرافق العمومية بسبب سلوكيات أفراد لا يتحلون بالمواطنة المسؤولة، مما يطرح تساؤلًا حقيقيًا حول جدوى المشاريع الكبرى إذا لم تترافق مع حماية الملك العام واستثمار حقيقي في تربية جيل واعٍ يحترم المرافق العامة.
وتتضح هذه الثنائية بين التقدم والتخلف بشكل أوضح عند مقارنة الأرقام التي حصدها القطاع السياحي بالواقع اليومي للمواطنين. فبيانات وزيرة السياحة فاطمة الزهراء عمور تشير إلى أن المغرب استقبل 4.6 مليون سائح خلال شهري يوليوز وغشت 2025، بزيادة 6% مقارنة بنفس الفترة من 2024، فيما بلغ عدد المغاربة المقيمين بالخارج الذين زاروا المملكة 3 ملايين، بزيادة 13% عن السنة الماضية. هذه الأرقام القياسية تعكس دينامية استثنائية لقطاع السياحة، في وقت تشهد فيه المطارات والملاعب الحديثة، أبرزها المركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله بعد استثمارات ضخمة
لكن خلف هذه الإنجازات، تظهر إشكالية الملك العمومي بوضوح : مراحيض الدار البيضاء التي تجاوزت استثماراتها مليار سنتيم تتهاوى أمام التخريب المستمر، رغم تركيب كاميرات المراقبة وتعزيز فرق الصيانة.
كما أظهرت مشاهد الفوز أمام النيجر يوم 5 شتنبر 2025 نزول الجماهير إلى أرضية الميدان بعد المباراة، إلى جانب انتشار أكوام من الأزبال في المدرجات، ما يطرح سؤالًا محوريًا: هل يكفي الاستثمار المادي وحده لضمان استدامة المشاريع الكبرى؟
المغرب يسير هنا بسرعة مزدوجة : مشاريع ضخمة تتقدم بخطوات واسعة، مقابل تقهقر بارز في حماية حياة المواطن اليومية. كل صنابير مسروقة، كل مراحيض مدمرة، وكل أكوام أزبال بعد المباريات تعكس فشلًا في بناء وعي مجتمعي حول احترام الملك العام، وتؤكد أن التنمية الحقيقية ليست مجرد ملاعب ومطارات، بل القدرة على حماية هذه الاستثمارات وربطها بسلوك المواطن.
كما أن هذه السرعة المزدوجة تكشف عن ثغرة تربوية وثقافية: جيل غير واعٍ بأهمية المرافق العامة والمناسبات الجماعية يساهم في التخريب، ما يجعل المشاريع الكبرى بلا جدوى إذا لم تصاحبها جهود تعليمية وتوعوية. المغرب لم يعد يستطيع الاكتفاء بالإنجازات الاقتصادية أو السياحية وحدها، بل يحتاج إلى استثمار متوازٍ في عقل المواطن وتكوينه المدني، ليصبح شريكًا في حماية ما تم إنجازه.
التحدي الأكبر هو خلق تناغم بين التطور التكنولوجي والبنية التحتية الحديثة وبين سلوك المواطن المدني وحياته اليومية، بحيث تتحول كل الاستثمارات في الملاعب والمطارات والمرافق العامة إلى فائدة ملموسة لكل فرد، سواء كان مواطنًا أو سائحًا. وإلا، سيظل المغرب يسير على خطين متناقضين: تقدم عالمي أمام أعين العالم، وتأخر محلي أمام أعين المواطنين، ما يعكس أن التطور بدون وعي مجتمعي يبقى مجرد صورة براقة لا تغطي واقعًا مؤلمًا.
يبقى المغرب اليوم يسير على خطين متناقضين: خط سريع يقوده الانفتاح السياحي والاستثمارات الضخمة، وخط آخر بطيء يعرقل حماية المرافق العامة وحياة المواطن، خصوصًا في مناطق مثل الحوز التي تعاني منذ عقود من نقص الخدمات الأساسية.
إن استمرار الاستثمار في المشاريع الكبرى دون موازنة مع الاستثمار في التربية والتعليم وبناء وعي المواطن يترك أجيالًا غير مدركة لأهمية الملك العام، ما يفضي إلى التخريب وفقدان قيمة أي إنجاز. المغرب يحتاج اليوم إلى استثمار مزدوج: في البنية التحتية وفي عقل المواطن، لضمان أن تصل الفائدة لكل فرد، من المدن الكبرى إلى أصغر القرى، وتحويل النمو الاقتصادي والسياحي إلى نهضة حقيقية مستدامة تشمل الجميع.