حياتنا

الله يرى… لكن المهم أن لا يراك الجيران!


يعيش المجتمع المغربي حالةً متقدمة من التناقض بين ما يُقال وما يُمارس، بين القيم المعلنة والواقع اليومي، بين الخطاب الظاهري والاختيارات الفردية الخفية. ففي الفضاءات العامة، تُرفع شعارات الأخلاق والدين، وتُستحضر الآيات والأحاديث في الحديث اليومي، ويُتوقّع من الجميع أن يظهروا التزامًا شكليًا بقيم "المجتمع المحافظ". غير أن هذه القيم، في كثير من الحالات، تتحول إلى واجهة تخفي ما هو أعمق: انفصالٌ شبه تام بين الخطاب والممارسة، بين ما نعلنه وما نعيشه



تفرض الثقافة السائدة على الأفراد ارتداء أقنعة التدين والاحترام، لا باعتبارها اختيارات شخصية حرة، بل كضرورة اجتماعية للقبول والتقدير. في المناسبات الدينية، يصوم الجميع – أو يتظاهر بالصيام. في الأحياء، تتجنب النساء لباساً يُعتبر “مستفزًا” تفاديًا للوصم. على وسائل التواصل الاجتماعي، تُنشر آيات صباحًا، ومحتويات ترفيهية ليلية لا تنسجم مع القيم المعلنة. هذا التدين الظاهري لم يعد ناتجًا عن قناعة، بل عن ضغط مجتمعي يجعل المظهر أهم من الجوهر، ويُكافئ من يُجيد التمثيل بدل من يتحلى بالصدق مع الذات.
 

تنعكس هذه الحالة على العلاقات الاجتماعية، حيث تتحول الأحياء والمدارس وأماكن العمل إلى فضاءات مراقبة جماعية. الناس يراقبون بعضهم البعض، يحكمون، يعلّقون، ويُدينون. فتاة تغادر المنزل متأخرة، أو شاب لا يُصلي في المسجد، يكفي أن يُرى أحدهما حتى تنهال الأحكام. اللافت أن كثيرًا من الذين يُطلقون هذه الأحكام يعيشون حياتهم الشخصية بعيدًا تمامًا عما يروجونه علنًا. إنها مفارقة صارخة: التنديد في العلن، والممارسة في الخفاء. تقول باحثة اجتماعية من الرباط: "كلما ارتفعت نبرة التنديد، ازداد احتمال وجود سلوك مخالف يُخفى عن الأنظار".
 

في هذا المناخ، تعاني العلاقات العاطفية والحميمية من حصار مزدوج. فالقانون والمجتمع يرفضان أي علاقة خارج الزواج، لكن الواقع يقول شيئًا آخر. العلاقات قائمة، الفنادق تتغاضى، والشقق تُستأجر بالساعة، شريطة أن تبقى في الظل. إن الخط الأحمر ليس الفعل نفسه، بل إعلانه. ولهذا، حين تُفاجئ امرأة المجتمع بحمل خارج الزواج، أو يعبّر شاب عن ميول مختلفة، تتحول القضية إلى "فضيحة"، لا بسبب الفعل، بل بسبب كسره لجدار الصمت.
 

يتعلم الأطفال هذا النفاق منذ سن مبكرة. يُطلب منهم قول الحقيقة، لكنهم يشاهدون الكبار يكذبون ويتحايلون. يُدرسون القيم، لكنهم يرون الكبار يخرقونها. وهكذا، يتشكل لديهم إدراك غير منطوق: "المهم ليس من أنت، بل ما يعتقده الناس عنك". وهذا أخطر ما في الأمر، إذ يتحول النفاق إلى نمط تفكير وتربية، يُغرس في الأجيال القادمة بوصفه آلية للبقاء الاجتماعي.
 

في هذا السياق، يصبح التعبير عن الاختلاف عملاً محفوفًا بالمخاطر. أن تقول "أنا غير متدين"، أو أن تعيش حياة شخصية مغايرة، أو أن ترفض الزواج، يعني المجازفة بالعلاقات، وربما بالمكانة الاجتماعية. تقول وداد، أستاذة في مراكش: "أعيش ثلاث حيوات: واحدة مع عائلتي، وثانية مع زميلاتي، وثالثة مع نفسي. وكل منها بشخصية مختلفة. إنها حياة مُرهقة، لكنها ضرورية كي أظل مقبولة في كل دائرة".
 

رغم هذا الواقع الثقيل، بدأت مؤشرات التغيير في الظهور. جزء من الجيل الجديد صار يرفض الازدواجية، ويتحدث بجرأة عن معتقداته وهويته. بعض الفنانين والمفكرين وصناع المحتوى الرقمي يتحدّثون بصدق، ويفكّكون الخطاب الديني والاجتماعي المزدوج، ويدعون إلى مجتمع أكثر تقبلاً للذات، وأقل خوفًا من الاختلاف. لكن الطريق نحو مجتمع صادق مع نفسه لا يزال طويلاً، إذ أن النفاق الأخلاقي يجد دعمه في ثقافة الخوف، ويغتذي من رقابة المجتمع، ويعيش في ظل مؤسسات تفضّل الواجهة على الحقيقة.
 

إن مواجهة هذه الأزمة لا تعني بالضرورة نسف القيم أو إنكار أهمية الدين، بل تتطلب فقط إعادة ترتيب الأولويات: أن يصبح الصدق مع الذات قيمة عليا، وأن يُفصل بين الحياة الشخصية والرقابة الجماعية، وأن يُفهم الدين كمجال إيماني داخلي، لا واجباً شكليًا يُمارس لإرضاء الناس. فالإيمان الحقيقي لا يبدأ بالخوف من نظرات الآخرين، بل بالتصالح مع الذات. والمجتمع المتماسك لا يُبنى على أقنعة، بل على وضوح وصراحة تتيح لكل فرد أن يكون ذاته دون خوف


النفاق الاجتماعي، النفاق الديني، المجتمع المغربي، القيم الدينية، الازدواجية الأخلاقية، الظاهر والباطن


Aicha Bouskine
عائشة بوسكين صحافية خريجة المعهد العالي للإعلام والاتصال، باحثة في العلوم السياسية وصانعة محتوى في إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الخميس 26 يونيو 2025

              

آخر الأخبار | حياتنا | صحتنا | فن وفكر | لوديجي ستوديو | كتاب الرأي | هي أخواتها | تكنو لايف | بلاغ صحفي | لوديجي ميديا [L'ODJ Média] | المجلة الأسبوعية لويكاند | اقتصاديات | كلاكسون


Bannière Réseaux Sociaux

Bannière Lodj DJ
















تحميل مجلة لويكاند







Buy cheap website traffic