كتاب الرأي

مولاي امحمد الخليفة... صوت المتنبي وفكر علال الفاسي


"إن نسيت رجالًا كثرًا أو مواقف عديدة مرّت بي، فلست أظنني أنسى ذلك اليوم الذي هرع فيه إليّ النقيب والبرلماني والوزير السابق، مولاي امحمد الخليفة، وأنا ما أزال طبيبًا داخليًا، عقب مداخلتي في ملتقى للفريق الاستقلالي بالخميسات حول قوانين مزاولة مهنة الطب. أشاد بكلماتي وعربيتي آنذاك، وفعل ذلك بصدق لمسته في عينيه. كان الخليفة بالنسبة لي أكثر من رئيس لفريق الوحدة والتعادلية، وأكثر من اسم طبّقت شهرته الآفاق؛ كان نجمًا سياسيًا متلألئًا في سماء الوطن. سيبقى ذاك التنويه محفورًا في ذاكرتي بتفاصيله الدقيقة.إنه لحظة لا تُنسى من تلك اللحظات النادرة التي تصنع أثرًا عميقًا في النفس، وتصنع قيمة شخصية يصعب تجاوزها.



بقلم: الدكتور خالد فتحي

ولذلك، ما زلت كلما رأيت مولاي امحمد، تخيلت ذاك المشهد ماثلًا أمامي: صورته وهو يقترب مني، كلماته المشجعة ونبرته الواثقة، تحضر كما لو كانت اللحظة لم تغب قط. هو مولاي امحمد، الرجل العابر للأجيال، والسياسي المفكر المحبوب من مختلف طبقات المجتمع، من ميسوريه إلى كادحيه. هو نائب الشعب الذي تملؤك رؤيته فخرًا، سواء كان في صفوف الأغلبية أو المعارضة.

ليس مولاي امحمد، كما تأكد لي مع مرور الزمن، ميّالًا إلى النخبوية المنغلقة على ذاتها، ولا ممن يضعون الحواجز بينهم وبين الناس. هو سياسي حاذق يعرف كيف يذوب في محيطه، وكيف يكسب القلوب والعقول بسلاسة وتواضع.  رجل يصغي بإمعان، يناقش بوعي، يؤمن بالشباب، ويثق في قدراتهم، ويوكل إليهم المهام بثقة. صديق مقرّب أسرّ لي، وأنا أكتب هذه السطور، أنه لا يزال حتى اليوم يذكر  له جميله حين عينه نائبًا له  وهو في مرحلة مبكرة من مساره الحزبي، حين كان الخليفة منسقًا للحزب بجهة مراكش. قالها بعين الامتنان: جعلني أعتدّ بنفسي لأول مرة. 
كثيرون يدينون للخليفة مثله  بالوفاء، لأنه كان مصدر إلهام ونموذجًا نضاليًا منحهم الثقة في الدفاع عن القيم الوطنية العليا.

لقد كان الخليفة ولازال مدرسة سياسية قائمة بذاتها، لا تُخرّج الأتباع بقدر ما تُطلق الطاقات وتفتح الآفاق. جذب إليه الشباب، لا عن طريق الوعود البرّاقة أو الشعارات الجوفاء، بل من خلال حضوره القوي، وقدوته الملهمة، وقدرته على إشعال شرارة الوعي والانخراط. لم يكن مجرد زعيم حزبي أو مسؤول سياسي، بل كان معلمًا للفكر والموقف، يؤمن بأن الطريق إلى الوطن تمرّ عبر بوابة الصدق، والعمل، والإيمان بالناس.

منذ بدأت أعي المشهد السياسي المغربي، وأنا أرى فيه رجلًا قوي الروح، ذكي القلب، صلبًا برفق، بعيد النظر، ثابتًا على المبادئ، لا يُفرّط في الثوابت، ولا يساوم على القيم. كان إذا شئنا التدقيق، شجاعًا لا يهاب قول الحق، ومقدامًا لا يخشى في سبيله لوم لائم. لم يكن يكتفي برفض ما لا يرضاه في السياسة بقلبه، بل كان يغيّره بلسانه، وبجرأته المعهودة. لا أخفي أنني، لسنوات، أدمنت الاستماع إلى خطبه، وصرت أتحيّن الفرص وأتكلّف الأسباب لألِج قاعة مجلس النواب، فقط لأستمع إلى ذلك الصوت الجهوري الهادر، يشقّ فضاء المجلس مثل هدير بحر غاضب، لكنه واعٍ وموجَّه.
بل لقد كنت، كلما شعرت بضعف يتسلل إلى لغتي العربية، أعود إلى خطبه، أقرؤها لاكتساب البيان والفصاحة من جديد. كنت أتمرّن على نثره السياسي كما أتمرّن على نثر طه حسين، والعقاد، ونجيب محفوظ. كنت أعشق جزالة لغته، وقوة معانيه، وروعة سبكه في خطبه العصماء. كانت خطاباته أقرب إلى دروس في البلاغة السياسية، لا تشذ فيها كلمة عن موضعها، ولا تأتي جملة إلا وهي محكمة تؤدي المعنى الكامل ببراعة.

إنه النائب  المحامي الذي يرافع  كذلك حين يرتجل الخطبة، والخطيب الذي يصهر العقل في بيانه. كانت مرافعاته تحت قبة البرلمان عيونَ خطبٍ، أشبه بمعلّقات سياسية تستحق أن تُدرّس وتُحلَّل. لقد كانت بحق نصوصًا جديرة بأن تُدرَج ضمن مقررات تحليل الخطاب السياسي في الجامعات، لما فيها من ثراء لغوي، وعمق فكري، ومتانة حجاج. كان، حين يمتشق لغة الضاد، يذكّرنا بالمتنبي، لكنه متنبي مغربي، يستلهم فكر علال الفاسي، شيخه و"مرشده" ومرجعه ، الذي تتلمذ على يديه، وترجم أفكاره بأمانة من على منابر البرلمان وفي   التجمعات و الساحات حيث كان يلتحم بالجماهير. 
لكل سياسي متميز علامة فارقة، وعلامة مولاي امحمد الخليفة كانت لسانًا بليغًا، ورباطة جأش، وقلبًا لا يرتجف أمام العاصفة. لم يعرف المداهنة، ولا راوغ في المواقف. يصدح بالحقيقة كما هي، يقبلها من يقبلها، ويرفضها من يشاء، لكنه لا يغيّرها إرضاءً لأحد. منذ أن عرفه المغاربة، رأوا فيه الرجل الوقور النبيل، بملامح توحي بالصرامة المتزنة، والسياسي الشامخ كجبل، الذي لم تغره.

الأضواء، وإن لاحقته في كل محفل، مفتتنة بفصاحته وشخصيته التي تأبى أن تكون عادية.
لم يكن الخليفة شخصية طاردة للناس من السياسة، بل كان جاذبًا إليها بكلماته، بلغته، وبمواقفه. كانت مواقفه تنساب من لسانه حرّة، قوية، تسكب في قالب لغوي راقٍ، تتقاطع فيه الذائقة الأدبية مع الإبهار البياني والإحكام السياسي. لم يكن حديثه مجرد خطب بلاغية، بل كان خطّ نار في جبهة المواجهة. في كل مرة يتكلم، يصمت البرلمان. وكنت مرارًا هناك، في مقاعد الضيوف، أتابع المشهد: نوابٌ من كل الفرق، من حلفائه وخصومه، ينصتون باهتمام نادر، يستمتعون ببهاء اللغة العربية، وعمق المعاني، ودقة الرسائل السياسية في خطبه. 

كان خطيبًا يسكنه المتنبي، بل لعلّي لا أُجانب الصواب إن قلت إن شاعر العرب الأبرز قد ساهم، من بعيد، في تشكيل هذا النائب المفوَّه، والسياسي النبيه الجسور. لقد أتقن الخليفة لغة الضاد حتى أصبحت سلاحه الأمضى في معارك الفكر والسياسة. كم بحّ صوته وهو ينادينا بأن الهوية ليست شعارًا يُرفع، بل موقف يُلتزم به. ولهذا ظل، ولا يزال، مدافعًا شرسًا عن اللغة العربية، رافضًا كل محاولات التبخيس، مؤمنًا بأن الأمة لا يمكن أن تنهض بلغة مستوردة، وبأن السيادة تبدأ أولًا من السيادة على اللسان.البارحة حضرت بمجلس النواب ندوة حول كتابه الجديد: مولاي امحمد الخليفة، الصوت القوي للشعب في البرلمان. كان المشهد معبّرًا: كل المتدخلين، من مختلف الأطياف، اجتاحتهم نوستالجيا عارمة، لكل ما مثّله الرجل من حضور وتأثير، ولكل لحظة جمعتهم به. لم يكن بالنسبة إليهم مجرد اسم في سجل البرلمانيين، بل كان بوصلة سياسية، ورجل دولة من العيار الثقيل، جمع بين الحكمة والجرأة، وبين الالتزام والنقد البنّاء، وظل وفيًا للمؤسسات، مخلصًا للمبادئ، نقيّ اليد واللسان.

هذا الثراء في شخصية الخليفة يجعلنا لا نراه رجلًا واحدًا، بل تركيبة فريدة لعدة شخصيات انصهرت في روح واحدة، فأهدتنا هذه الأيقونة السياسية الرفيعة التي يحق للبرلمان المغربي أن يفتخر بها ويخلّدها ضمن رواده العظام. تنافس المتدخلون في تعداد مناقبه، واجتهدوا في رسم ملامح صورته، لكني كنت في وادٍ آخر، أراهم كمن يجتاز امتحانًا عسيرًا في لغة الضاد، لأنهم كانوا في حضرة أمير الفصاحة والبيان، الرجل الذي حين يتكلم، تهدر اللغة في كل الزوايا."

كنت أستمع لهم، لكن كلماتهم كانت تختلط في أذني بهدير صوته الذي ما زال يتردد بين جدران البرلمان. كأن القاعة استعادت ذاكرتها، وتذكّرت خطيبها البليغ، ونائبها الصلب في قول الحق، وقد عاد إليها محاطًا برموز من نخب هذا الوطن، ليعيد إليها شيئًا من مجدها وتاريخها. في تلك اللحظة، أيقنت أن هذا التكريم لم يكن مجرد احتفاء بشخص، بل كان إقرارًا ضمنيًا بأن الخليفة لم يعد ملكًا لحزبه، بل أصبح ملكًا للمغاربة جميعًا

ولذلك، فإن الكتابة عنه ليست ترفًا إنشائيًا، بل ضرورة وجدانية وتربوية، لأن الجيل الحالي في أمسّ الحاجة إلى نماذج من طينة مولاي امحمد الخليفة؛ شخصيات تنير له دروب الفكر والسياسة، وتغذّي بصيرته بالقيم، وتُعلّمه أن النضال لا يكون إلا بالصبر، وطول النفس، وحب الوطن. إن أمثال الخليفة لا يُكتب عنهم فقط لأنهم تميزوا، بل لأن في سيرتهم  شحنًا للضمائر، واستنهاضًا لهمم كانت على وشك الخفوت.

أتذكر جيدًا، وتسعفني سني على ذلك، مداخلته الجريئة خلال مناقشة ملتمس الرقابة ضد الحكومة سنة 1990. لم تكن لحظة عابرة، بل لحظة فرز حقيقي بين من يرى السياسة لعبة توازنات، ومن يؤمن بأنها امتحان للمواقف والمبادئ. وقف الخليفة آنذاك شامخًا، كما عهدته الأمة، نائبًا حرًّا لا موظفًا سياسيًا، وتحدث من موقع القناعة لا المصلحة، فانتقد بحزم، واقترح بحكمة، وتكلم بغيرة وطنية صادقة لا تبتغي غير وجه الوطن.

كانت مداخلته يومها درسًا في الجرأة والانضباط، خطبة سياسية من طراز رفيع، تجسّد الوطنية في أسمى معانيها. تحدث بصفاء الضمير، لا يخشى خسارة منصب، ما دام واقفًا على أرض المبدأ. لقد جسد في تلك اللحظة جوهر العمل النيابي كما ينبغي أن يكون: رقابة واعية، ومحاسبة مسؤولة، ووفاءً لا يتزعزع للثوابت. لقد كان مولاي امحمد الخليفة رئيسًا استثنائيًا لفريق الوحدة والتعادلية، ولعلّه أرهق، ويُرهق، كل من شغل  هذا المنصب بعده، إذ يصعب محاكاته أو مجاراته في البذل والحضور والتأثير. إنه فلتة من فلتات الحياة البرلمانية، وأحد رموزها الكبار، وأيقونة يحق للمؤسسة التشريعية أن تفتخر بها وتخلّد اسمه في سجلّها الذهبي.

كان حضوره كافيًا لبثّ الثقة في أعضاء الفريق، وشحنهم بطاقة إيجابية تدفعهم للعطاء. لم يكن يفرض نفسه بسلطة الموقع أو التراتبية التنظيمية، بل بقوة الحضور، ورجاحة العقل، وصدق النية، وجاذبية الشخصية. وعلو الكعب الفكري ،وسمو الخلق . كان يستنهض الهمم، ويستخرج من رفاقه أجمل ما فيهم من خصال وكفاءات، ويجعلهم يشعرون بأنهم شركاء حقيقيون في العمل الوطني، لا مجرد أدوات سياسية.

للخليفة حيوات متعددة، امتدت بين الحزب والبرلمان، وبين الوزارة والمحاماة، وارتبطت بالنضال من أجل قضايا الأمة العربية والإسلامية. لكنه، فوق كل ذلك، كان رجل فكر وثقافة بامتياز. خارج قبة البرلمان، حافظ على موقعه في قلب النقاش العمومي، من خلال مقالاته، وندواته، وحواراته، ومشاركاته الوازنة في المؤتمرات الوطنية والقومية. فعل ذلك دون أن يُخلّ بتوازنه، أو ينزلق نحو شعبوية رخيصة او يسقط في براثن التهافت السياسي ، بل ظل صوتًا رصينًا، يحاور بالعقل، ويقنع بالبرهان، ويتكلم من ضمير الأمة.

وزيرًا للوظيفة العمومية، ثم وزيرًا للصناعة التقليدية، ظل مولاي امحمد الخليفة وفيًا لنفسه: نفس الخطاب، نفس النبرة، ونفس المرجعية الفكرية. لم تغيّره المقاعد الوثيرة، ولم تخفت نبرته حين انتقل من صفوف المعارضة إلى موقع المسؤولية. لم يُساوم على مبدأ، ولم يُداهن في قضية. كان صوته في الوزارة امتدادًا لصوته في البرلمان، ولسان حاله أن المنصب تكليف لا تشريف، ولا قيمة له إن لم يُسخّر لخدمة الوطن وقيمه الكبرى.

غادر مولاي امحمد مناصب المسؤولية، لكنه لم ينسحب من ساحة الفعل السياسي، وخصوصًا من مجاله الفكري والتنظيري. ظل صوته حاضرًا في كل لحظة تأمل، وكل منعطف مصيري، وكل أزمة تتطلب حكمة ونقاء بوصلة. بقي رأيه مطلوبًا حين تختلط الأصوات، وتتقاطع الرؤى، وتتشابه المواقف. كأن الوطن يناديه كلما اضطرب الاتجاه، وتشابه الغث بالسمين، ليعيد التوازن ويرشد القرار. إنه من أولئك القلائل الذين يظلون مؤثرين حتى في غيابهم عن المواقع الرسمية، لأن أثرهم يتجاوز المناصب إلى الوجدان العام."

مولاي امحمد الخليفة، باختصار، أسد هصور في معارك الكرامة والحرية والالتزام. لم تُغْرِه المناصب، ولم تُغوِه الأضواء، ولم تُبدّل الأيام صوته الصادق أو تحرف قلمه النزيه. ظل وفيًا لذاته، لوطنه، ولرسالة السياسة النبيلة كما آمن بها. الكتابة عنه ليست مجرد تأريخ لتجربة سياسية، بل هي احتفاء برجولة نادرة، وشهادة فكرية خالصة لرجل لم يغادر قلوب المغاربة، لأنه لم يساوم يومًا على مبدأ، ولم يخذل في موقف. لقد غادر المناصب، لكنه ظل في صدارة الذاكرة الوطنية، رمزًا للصدق، والنزاهة، والانتماء الأصيل.

إنه في زمن يضطرب فيه المشهد السياسي، وتتيه فيه البوصلة بين ضجيج الشعبوية وركاكة الخطاب، تبرز سيرة مولاي امحمد الخليفة كمرآة لما ينبغي أن تكون عليه السياسة: التزامًا لا مصلحة، وصدقًا لا مداورة. انه الدليل الذي يمشي بيننا على ان السياسة يمكن ان تظل وفية للقيم ،صادقة في الانتماء ، منافحة عن الهوية،إننا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى من يذكّرنا أن الوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بالمواقف. وأن صوتًا صادقًا، مثل صوت الخليفة، قادر أن يوقظ فينا جذوة المواطنة النبيلة، ويعيد للسياسة معناها النبيل.


سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الجمعة 23 ماي 2025
في نفس الركن