بقلم : محمد ايت بلحسن
من المدرسة إلى ساحة المعركة التكنولوجية
فهمت الصين أن السيطرة على التقنيات الناشئة تتطلب إعادة تشكيل نظامها التعليمي. ففي عام 2024، ألغت الصين نحو مئة تخصص قديم واستبدلتها بتخصصات تركز على المستقبل، مثل التقنيات الحيوية، الطاقات المتجددة، الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، والهندسة الكمية. وفي جامعة سيتشوان، تم استبدال المناهج التقليدية ببرامج متقدمة في علوم الكتلة الحيوية. بكين لا تهدف فقط إلى التدريب للحاضر، بل تحضر مهندسيها لبناء عالم الغد.
هذه الثورة ليست محصورة في المختبرات المدنية، بل شملت الجانب العسكري أيضًا. فالصين أدرجت تدريب المهندسين على الأمن السيبراني، الاتصال العسكري، وتكنولوجيا الأسلحة المتقدمة، بما في ذلك الحواسيب العملاقة والصواريخ فرط الصوتية. هذا الجمع بين المدني والعسكري هو جزء من استراتيجية واضحة: تحويل كل تقدم علمي إلى قوة اقتصادية وعسكرية.
في قلب هذا النظام يوجد امتحان "غاوكاو"، وهو اختبار القبول الجامعي. يشارك فيه سنويًا 12 مليون طالب، ويُعتبر أكبر مسابقة تعليمية في العالم. للطلاب من الأسر ذات الدخل المحدود، يمثل هذا الامتحان الفرصة الوحيدة لدخول تخصصات مرموقة مثل الهندسة أو الطب. ورغم الانتقادات المتعلقة بالتركيز على الحفظ وتقليص مساحة الإبداع، فقد ساعد هذا النظام الصين على بناء قاعدة ضخمة من المواهب لدعم صعودها العالمي.
إعداد العقول للهيمنة : الرهان التكنولوجي الصيني
خلف هذه الصورة المبهرة، تواجه الصين تحديات كبيرة، فهناك أكثر من 500 مليون صيني، معظمهم من الأرياف، يفتقرون إلى المهارات اللازمة للاندماج في اقتصاد تقني. كما أن معدل بطالة الخريجين الشباب مرتفع للغاية، حيث تجاوز 21٪ في عام 2023. وحتى المهندسون أنفسهم يواجهون صعوبة أحيانًا في إيجاد وظائف مناسبة. ويضاف إلى ذلك التقدم السريع في شيخوخة السكان وانخفاض عدد العمال المتاحين، مما يجعل من الصعب استيعاب كل هذه الكفاءات في سوق عمل متكامل.
بينما تواصل الصين إنتاج المهندسين، يواجه الغرب تراجعًا ديموغرافيًا وقلة اهتمام الشباب بالتخصصات العلمية. أوروبا والولايات المتحدة قد تضطر إلى تبني موقف دفاعي لحماية مجالات الابتكار الخاصة بها، بينما تستثمر الصين بشكل مكثف للسيطرة على قطاعات استراتيجية كاملة. هذه التحولات الصينية تكشف أن أي قوة لا يمكنها الادعاء بالقيادة العالمية دون الاستثمار في العلوم والهندسة، واستراتيجية بكين واضحة: المستقبل لمن يبتكر ويصنع ويُبدع. السؤال الآن هو ما إذا كان بقية العالم سيستطيع مواجهة هذا التحدي أم سيكتفي بمشاهدة صعود مركز جاذبية علمي وتكنولوجي جديد.
بين التكوين والهجرة : معضلة كفاءات المهندسين المغاربة
أما في المغرب، فكل عام يخرج نحو 11 ألف مهندس جديد، بالإضافة إلى حوالي 19 ألف حامل لدرجات الماجستير العلمية القادرين على شغل مناصب تقنية. ومع إضافة الفنيين المتقدمين وغيرهم من خريجي تخصصات STEM من 189 مدرسة ومعهد، يصل إجمالي الخريجين الجدد إلى حوالي 24 ألفًا سنويًا. وتبرز هذه الإنجازات بشكل أكبر مع ارتفاع نسبة النساء في تخصصات الهندسة إلى 42٪، وهو من أعلى المعدلات عالميًا وفق اليونسكو.
ومع ذلك، تواجه هذه الديناميكية الأكاديمية مشكلة هامة وهي استمرار هجرة الكفاءات، حيث يختار سنويًا بين 2000 و3000 مهندس مغربي الهجرة بحثًا عن رواتب أفضل وفرص بحثية متقدمة ومسارات مهنية أوضح في أوروبا وأمريكا الشمالية ودول الخليج. هذا يضاف إلى هجرة الأطباء وغيرهم من الكفاءات العالية، مما يقلل قدرة المغرب على الاستفادة من رأس ماله البشري.
المفارقة واضحة : بينما يستثمر المغرب بكثافة في التخصصات العلمية ويطمح لأن يصبح مركزًا إقليميًا في مجال الرقمنة والذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، فإن معدل بطالة الخريجين الشباب يتجاوز 36٪. يجد المهندسون المحليون صعوبة في الحصول على وظائف مناسبة لمستوى مهاراتهم، وإذا حصلوا على عمل، تكون الرواتب أقل مقارنة بالأسواق الأجنبية. كما أن هناك نقصًا في البنى التحتية البحثية وروابط قوية بين الجامعات والشركات.
السؤال ليس فقط زيادة عدد المهندسين، بل خلق الظروف التي تجعلهم يبقون في البلاد: تحسين الرواتب، برامج بحثية تطبيقية، عقود جاذبة للمهندسين المغاربة العاملين في الخارج، وإشراكهم في مشاريع استراتيجية وطنية. بدون هذه الإجراءات، سيظل المغرب مجرد مزرعة لمواهب تُغادر لصالح بقية دول العالم