كتاب الرأي

عيد العرش المجيد: 26 عاما من البناء بعمق إنساني وبعد اجتماعي


تحل الذكرى السادسة والعشرون لاعتلاء جلالة الملك محمد السادس نصره الله عرش أسلافه المنعمين، والمغرب في قلب تحول نوعي ومستمر، لم يتوقف عن تجديد نفسه، ولا عن ترسيخ مكانته بين الدول الصاعدة، ولا عن إعادة صياغة نموذجه التنموي والاجتماعي في ضوء متغيرات عالمية متسارعة، وتقلبات إقليمية شديدة الحساسية.



بقلم: الدكتور فؤاد مسرة – أستاذ جامعي ورئيس مركز تناظر للدراسات والأبحاث

وفي زخم هذا المسار، يفرض سؤال الإنجاز نفسه بقوة: ما الذي تغير خلال ربع قرن ونيف؟ وهل كانت السنوات الست والعشرون امتدادا طبيعيا لمسار تاريخي راسخ، أم أنها أسست لتحول عميق في منطق الدولة، ووظائف المؤسسات، وعلاقة المواطن بوطنه؟

الجواب الصريح يفرض نفسه من خلال قراءة متأنية للمضامين المتكررة في الخطب الملكية، ومن خلال استقراء دقيق لسياسات عمومية لم تنطلق من فراغ، وإنما من رؤية إصلاحية حازمة، أعادت ترتيب الأولويات الوطنية على قاعدة ثلاثية واضحة: الإنسان أولا، العدالة ثانيا، والاستقرار ثالثا.

منذ خطاب العرش الأول سنة 1999، اختار جلالة الملك أن يجعل من التنمية الاجتماعية عمقا استراتيجيا للحكم، لا مجرد ملف قطاعي أو هوامش للبرامج الحكومية. وتمثل ذلك في إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005، والتي لم تكن آنذاك مجرد أداة لمحاربة الفقر، وإنما شكلت مختبرا عمليا لمقاربة جديدة تقوم على التمكين، والكرامة، والعدالة المجالية.
ومع توالي السنوات، تطور هذا التوجه وتعمق، ليصل اليوم إلى لحظة مفصلية: لحظة بناء الدولة الاجتماعية، التي تستند إلى هندسة مؤسساتية وقانونية وإدارية محكمة، تجمع بين دقة الاستهداف وفعالية الأداء واستباقية القرار. ويكفي التذكير بما تحقق خلال السنتين الأخيرتين في ورش الحماية الاجتماعية، من تعميم التأمين الصحي الإجباري، وإحداث السجل الاجتماعي الموحد، وتفعيل نظام الدعم الاجتماعي المباشر الذي استفاد منه أكثر من 12 مليون مغربي ومغربية، لكي ندرك أن المغرب دخل مرحلة تؤسس لفلسفة جديدة في إدارة الشأن العام.

جاء هذا التحول في سياق عالمي مطبوع بالأزمات والتقلبات، وتزامن مع ظروف اقتصادية صعبة وتحديات كبرى، من جائحة عالمية إلى توترات جيوسياسية وارتفاع حاد في الأسعار، وارتباك في سلاسل التوريد العالمية. ومع ذلك، ظلت الدولة المغربية، بقيادة جلالة الملك، وفية لخيارها الاجتماعي، متشبثة بالتزاماتها، ومتقدمة على كثير من الدول الشبيهة من حيث القدرة على حماية الفئات الأكثر هشاشة في أوقات الشدة.

يكتسب البعد الإنساني في المشروع الملكي امتدادا مزدوجا، يربط الداخل بالخارج، ويصل بين البناء الوطني والانخراط القاري. فالمغرب، وهو يرسخ استقراره، يضع نصب عينيه أفقا إفريقيا متكاملا، تتقاطع فيه التنمية بالسيادة. وتبرز في هذا السياق مشاريع استراتيجية كبرى ذات بعد إفريقي أصيل: من خط أنبوب الغاز نيجيريا–المغرب، إلى ميناء الداخلة الأطلسي، ومبادرات الاندماج الأطلسي الإفريقي، وصولًا إلى مشروع إنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر نحو أوروبا. وتعكس هذه المشاريع إرادة ملكية واضحة في تموقع المغرب داخل إفريقيا كشريك اقتصادي موثوق وأكثر من ذلك كفاعل مؤسس في بناء أمنها الغذائي والطاقي والاستراتيجي.

وفي عمق هذا المسار، تظل القضايا الاجتماعية، وفي مقدمتها الطفولة، والمرأة، والأشخاص في وضعية إعاقة، والمسنون، والمهاجرون، حاضرة بقوة في صلب أجندة الإصلاح. وتعد هذه الفئات بمثابة مرآة لصدقية اختيارات الدولة، ومعيارا لإنصاف السياسات. لذلك، لم يكن غريبا أن يكون المغرب من الدول السباقة في إشراك الخبرة الدينية والقانونية والحقوقية في إصلاح مدونة الأسرة، وأن يبادر إلى حماية أطفاله والسهر على متابعتهم للدراسة عبر تعميم دور الطالب والطالبة في كل الجهات والأقاليم، وأن يخطط لبرامج استثنائية في الإدماج الاجتماعي والمجالي.

وليس من قبيل المصادفة أن تتزامن هذه الدينامية مع انخراط المغرب في استحقاقات كبرى، على رأسها التحضير لاحتضان كأس العالم 2030، وتنزيل النموذج التنموي الجديد، وتنفيذ التزامات المملكة ضمن أجندة إفريقيا 2063. وتشكل هذه المحطات فرصا استراتيجية لإبراز قدرة الدولة على الارتقاء برأس مالها البشري، وترسيخ سياسات اجتماعية تعكس السيادة الوطنية في صيغتها التنموية الملموسة.

تمثل الذكرى السادسة والعشرون لعيد العرش المجيد مناسبة رمزية ذات دلالات وطنية عميقة، وموعدا متجددا للتأمل الجماعي، ولإعادة قراءة التحولات الكبرى التي عرفها المغرب خلال العقدين الأخيرين. إنها أيضا لحظة استشراف تستدعي تعبئة وطنية أوسع، وانخراطا متجددا من مختلف الفاعلين: نخبا أكثر التزاما، ومجتمعا مدنيا يقظا ومبادرا، وإعلاما أكثر مسؤولية، وقوى سياسية تساهم بفعالية في مواكبة هذا التحول التاريخي.

وفي ختام هذا المسار المتراكم، يخلص المراقب المنصف إلى أن ما تحقق خلال ستة وعشرين عاما من حكم جلالة الملك محمد السادس يشكل تحولا نوعيا على المستويين المؤسسي والقيمي، حيث أعيد تعريف مفهوم الدولة المغربية من خلال رؤية إنسانية متجذرة، تعلي من شأن العدالة والكرامة والسيادة، وترتقي بالوظيفة العمومية للدولة إلى أفق تنموي شامل يخاطب الحاضر ويؤسس للمستقبل.

Sara Elboufi
سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة مقدمة البرنامج الإخباري "صدى الصحف" لجريدة إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الخميس 31 يوليوز 2025

              

آخر الأخبار | حياتنا | صحتنا | فن وفكر | لوديجي ستوديو | كتاب الرأي | هي أخواتها | تكنو لايف | بلاغ صحفي | لوديجي ميديا [L'ODJ Média] | المجلة الأسبوعية لويكاند | اقتصاديات | كلاكسون


Bannière Réseaux Sociaux

Bannière Lodj DJ
















تحميل مجلة لويكاند







Buy cheap website traffic