بقلم : عبدالعزيز كوكاس
فكيف استطاع دارابونت أن يصوغ قصة خلاص لا تقوم على الفعل البطولي الظاهر، بل على الانتظار، الصبر، والعمل الصامت؟ وما هي المكونات البصرية والسردية التي جعلت هذا الفيلم يتجاوز زمنه؟
“الهروب” أخرجه فرانك دارابونت
“الهروب” أو “الخلاص من شاوشانك” فيلم أمريكي أخرجه فرانك دارابونت استنادا إلى القصة القصيرة الشهيرة لستيفن كينغ “ريتا هايورث والهروب من شاوشانك”، يحكي قصة مذهلة ومثيرة للاهتمام عبر شخصيات جعلت قصة الفيلم أكثر إثارة للاهتمام من القصة الأصلية، وتحظى بمكانة استثنائية في تاريخ السينما العالمية، ليس فقط بسبب الحبكة المحكمة بل لقدرته العميقة على مساءلة الإنسان في لحظات العتمة.
نحاول أن نقف هنا على البنية الجمالية والفكرية للفيلم بوصفه تأملًا سينمائيًا في معنى الحرية، الانتظار والأمل داخل فضاء قهري مغلق، حيث تتحول الزنزانة إلى استعارة وجودية..
يبدو فيلم “الهروب من شاوشانك” أكثر من مجرد دراما سجن، إنه ملحمة إنسانية عن الإرادة، الصبر، الولاء وعشق الحرية والقلق الوجودي في قلب العدم. بعين سينمائية شاعرية، يسائل فرانك دارابونت حدود الإنسان داخل جدران القهر، ويُحيل السجن إلى استعارة كونية عن الاغتراب والانتظار القاتل، بينما يتكئ على نسيج سردي محكم وشخصيات مشحونة بالرمز والمعنى.
البنية السردية: سجن الجسد وانفتاح السرد
يُبنى فيلم “الهروب من شاوشانك” على حكاية داخل حكاية، بصوت “ريد” (مورغان فريمان)، الذي لا يمثل فقط راوياً بل ضميرًا داخليًا ومتلقيًا مثلنا. هذا الاختيار السردي يمنح الحكي بعدًا تأمليًا ويجعل من مسار البطل (آندي دوفرين) مسارًا صامتًا لكنه مشحون بالمعنى. فالسرد لا يستعرض مغامرات بل ينسج لحظات تبدو هامشية لكنها تؤسس لفعل الخلاص الأخير، مما يحيلنا على مفهوم “البطولة الصامتة” التي تتحدى النظام دون صخب.
طابع الحكي الشخصي الحميم يجعل السرد لا يتخذ بعدا خطيا، فهناك استعادات ومقارنات تُثري التجربة وتُعزز طابع التأمل. كل حدث في حياة آندي دوفرين (تيم روبنز) هو تمهيد لفكرة أعمق: أن الأمل ليس وهما وإنما خيار وجودي.
يؤدي بوب جلوتين دور “واردن نورتون”، ويلعب ويليام سادلر دور هيوود، فيما يلعب جيمس وايتمور دور بروكس صديق ريد وآندي في السجن. الممثلون الذين تم اختيارهم لهذا الفيلم مثاليون في أداء أدوارهم.
مورغان فريمان
مورغان فريمان ممثل متعدد الكفاءات، يظهر في دور “ريد” حكيما، ناضجا، مجرما أنيقا، رجل إيرلندي في منتصف العمر بشعر أحمر، أما بالنسبة لتيم روبينز فإن تمثيله رائع بلا حدود ومقنع، وقد جعل المشاهد يشعر وكأنه معه داخل الزنزانة، بل يورطنا المخرج في التضامن مع هذا المجرم وهو يحفر ثقبا في السجن ليعانق الحرية. يسيطر “الهروب من شاوشانك” على مشاعرنا لأنه يجعلنا أفرادا في عائلة توجد وراء القضبان والجدران السميكة.
لذلك لا يوجد مفتاح بنية الفيلم بيد البطل، بل بعلاقتنا به: فضولنا، شفقتنا وإعجابنا. لو كان آندي هو المركز البطولي، لكان الفيلم تقليديا وأقل غموضا كما في فيلم “ألكتراز” أو “الهروب الأكبر” أو حتى فيلم “الفراشة”، لكن مخرج شاوشانك يجعلنا نتساءل باستمرار عن هذا الرجل. هل حقا قتل زوجته وعشيقها؟ لماذا يحتفظ بالسر لنفسه؟ لماذا لا يتجول في ساحة السجن مثل رجل حر في نزهة، ويبدو منشغلا فقط بإسقاط التراب الذي نبشه في قلب الجدار وملأ به جيوب سرواله بصبر النحات.
آندي هو الذي يجلب نور الحياة إلى ظلام السجن، تماما مثل تدمير جدار زنزانته. في هذه الأثناء، يتم إخفاء هروب آندي من خلال ديكور الحائط وهو عبارة عن ملصق وهذا يجعل اللقطات أكثر من مجرد مجموعة رائعة تحاول وضع الكاميرا في أماكن فريدة من نوعها. لذلك حاز فيلم “الهروب من شاوشانك” سبعة ترشيحات لجوائز الأوسكار، بما في ذلك جائزة أفضل صورة.
المفاجأة في الخاتمة (الهروب عبر جدار ومرحاض الصرف) ليست مجرد حبكة بل تجسيد بصري للفكرة المسيحية القديمة: القيامة لا تكون إلا بعد المرور بالجحيم.
الشخصيات كمرآة للوجود المعذب
يظهر آندي دوفرين كرمز للإنسان الذي يرفض الانكسار. محاسب بنكي بريء يُسجن في جريمة قتل ملتبسة، لكنه يرفض أن يُختزل في رقم أو قيد. يرمز آندي إلى “العقل الصامت” الذي يعمل في صبر داخلي من دون صراخ، يعيد بناء ذاته في صمت. يمثل “العقل المستبصر” في عالم جنوني، ويمثل مقاومة الاغتراب بالعقل والقراءة والتخطيط الهادئ.
فيما يرمز ريد إلى السجين الذي لا يتحرر إلا حين يتعلم إعادة بناء الأمل في الآخر. الضمير السارد. يمثل من أُلحق به “مؤبد داخلي” حتى لو خرج. يتغير ببطء عبر تأثير آندي. صوته هو صوت الراوي، وبالتالي هو صوت المشاهد المتلقي.
بروكس: هو ضحية الاغتراب والوجه المأساوي للمنظومة المجتمعية، إذ فشلت حريته لأنه فقد معنى العيش خارج النظام القهري، رمز الضياع بعد الاعتياد على القيد. موته بعد خروجه من السجن هو مأساة الإنسان الذي صار أسير سجنه الداخلي، حتى لو عانق السماء.
شاوشانك : فضاء رمزي لعزل الإنسان ونفيه، من الجدران إلى الأفق
يتحرك الفيلم من السجن إلى البحر. من حجرات الانطفاء إلى زرقة الوعد بالحرية. حتى الجدار الذي يخفي وراءه آندي أدوات حفره لا يُظهر نفسه إلا كجدار متآكل بالإرادة.
ليس البحر في النهاية فقط حرية مكانية بل أمل كوني وانبعاث وجودي. تظهرZihuatanejo كمدينة متخيلة على الساحل المكسيكي، أقرب إلى “الفردوس” الذي يخلقه الإنسان بالحب، بالذكاء وبالمثابرة. سجن شاوشانك نفسه ليس مجرد بناء بل ميتافيزيقا الخضوع.. يمثل النظام، العدمية، منظومة تقتل الأمل. بنية قمعية تحاكي السلطة في بعدها الوجودي..
شاوشانك هو عالم مكتفٍ بذاته، تحكمه قوانين البيروقراطية والقمع والتكرار وتفريغ الحياة من المعنى. لذلك، فإن الخلاص منه يتم بتقويض الزمن القهري من الداخل، كما فعل آندي في حفر النفق خلال 20 عاما بلا ضجيج، مما يجعل الجدار رمزا مزدوجا: حاجزا خارجيا، لكنه هش من الداخل لمن امتلك الصبر والأمل.
الرؤية الإخراجية وبلاغة الصورة : الخلاص عبر الجمال
يصوغ دارابونت عالم شاوشانك بلغة سينمائية تحتكم إلى البساطة الماكرة. تنساب الكاميرا بهدوء، تُصغي لعذابات الشخصيات. تترواح الإضاءة بين القتامة والدفء، وكأنها مرآة لمزاج السرد: زنزانات غارقة في ظلال الرماد، في مقابل لحظات شاعرية خالصة، لحظة صفاء كالقراءة على سطح السجن أو بث موسيقى “فيغارو” الكلاسيكية عبر مكبر الصوت في أرجاء السجن، في مشهد يحمل دلالة مزدوجة: أن الجمال وحده قادر على اختراق الجدران، وأن الموسيقى قد تكون فعل حرية مؤقتة.
يوظف المخرج التناقضات البصرية كأداة للمعنى: لا تقي جدران شاوشانك العالية من الانكسار الداخلي، في حين أن المحيط الشاسع (البحر في الختام) يُمثل الحقيقة الوحيدة الممكنة: الحرية كمطلق وتتحول “زيواتنيهواتيني” إلى استعارة للبعث الجديد، تمتاز الكاميرا بالانسياب الهادئ وتخلو من الإبهار البصري المفرط، مما يكرس الطابع الواقعي.
جاءت الموسيقى التصويرية لتوماس نيومان خافتة ومؤثرة، تشبه الأمل الخجول المتسلل عبر جدران الصمت. لحظة بث الأوبرا هي لحظة ذروة صوتية: المدى المفتوح للأصوات مقابل ضيق الزنازين، كأن اللحن نفسه يحفر نفقًا من الروح نحو الضوء.
أبعاد وجودية كبرى في الفيلم
يتقاطع الفيلم مع أسئلة وجودية كبرى: هل يمكن للإنسان أن يكون حرا حتى داخل القيد؟ كيف نعيد اختراع المعنى في سياق قاتم؟ ما معنى الزمن حين يُفرغ من الأمل؟
لا يهرب آندي فقط من جدران السجن بل من عبثية النظام، من سطوة السلطة الرمزية، من اختزال الإنسان في رقم. والبحر في الختام ليس مكانا جغرافيًا بل وعد كوني حيث تعود الروح إلى أفقها الأول.
الزمن في الفيلم دائري: من بداية الأمل إلى انكساره إلى بعثه. يبرز كيف يطحن الزمن أرواح السجناء، لكنه أيضًا يمنح من يصبر “معجزة الانبعاث”. ما يميز آندي هو أنه ظل حرا داخليا رغم القيد. وهذا يطرح تساؤلاً كبيرًا: من هو السجين؟ من في الداخل أم من استسلم حتى لو كان خارج الأسوار؟ لم ينجُ آندي وحده، بل حرر ريد أيضا. وكأن الخلاص لا يكتمل إلا بمشاركة الآخر.
لماذا يُعد فيلم شاوشانك خالداً؟ لأنه ببساطة يُعيد تعريف الأمل كقيمة مقاومة. إنه ليس فيلمًا عن الهروب بل عن صناعة الخلاص. يقدم حكاية تراجيدية في ظاهرها، لكنها تتسلل بهدوء إلى القلب لتقول :في عمق الظلمة، هناك دوما شق ينفذ منه النور. يُعيد للمشاهد إيمانه بأن الإنسان، مهما ضاق به العالم، يمكنه أن يحفر نفق خلاصه ولو بأظافره.
يظل فيلم “الهروب من شاوشانك” درسًا جماليًا وأخلاقيًا في آنٍ معًا. إنه يعيد إلينا إيماننا بأن الإنسان قادر على تجاوز أقسى شروط الوجود دون أن يفقد صوته الداخلي.