كتاب الرأي

"التعطيل الخلاق" للسياسة : إصلاحات ملكية تقتحم المعاقل التقليدية للأحزاب

الشباب، المرأة، والمستقبل : المغرب يختار "خرق" النموذج السياسي السائد


هناك أسابيع يستمتع فيها التاريخ بتركيب ثنائيات متناقضة. ففي الأسبوع الجاري، جمعت الصدفة - دون سابق إنذار - صورتين لم يكن ينبغي أبداً أن تتصادما بهذه القسوة : من جهة، نجد عالما اقتصاديا يكرّس، عبر جائزة نوبل، فضائل التعطيل الخلّاق أو ما يعرف اصطلاحا ب"disruption" ، وهو تلك القدرة على هزّ مراكز الريع المُستقر، وتحديد حدود الابتكار، وإحياء أسواق جديدة حيث كان الجمود سيد الموقف



بقلم : عدنان بنشقرون

ومن جهة أخرى، شهد المغرب خطوة غير مسبوقة حين قرر المجلس الوزراي، برئاسة صاحب الجلالة الملك محمد السادس، إدخال روح الـ"disruption" أو التعطيل الخلّاق إلى قلب العملية السياسية نفسها. هذا المصطلح المستعار من عالم الشركات الناشئة جاء ليصطدم بالآليات التقليدية للأحزاب : تعديل مسار الترشيحات، فتح المجال أمام الشباب دون الخامسة والثلاثين، تبسيط شروط الدخول إلى المنافسة السياسية حتى خارج مظلة الأحزاب، وتمويل ما يصل إلى 75% من تكاليف الحملات الانتخابية لهم. هذه الخطوة غير المسبوقة ليست مجرد إجراء شكلي، بل دعوة إلى تجديد حقيقي، يستحق تحليلًا معمقًا يتجاوز  التعليق اليومي.
 

لنبدأ من صُلب الإصلاح، فالمشروع الذي أُقر في المجلس الوزراي يُعدِّل القانون التنظيمي 27.11 المتعلق بمجلس النواب. فهو يُهذِّب العملية الانتخابية، ويُحكم إغلاق الباب أمام الترشيحات غير الجديرة، ويُشدد العقوبات على الغش الانتخابي، ولكن الأهم من ذلك كله، أنه يعيد هيكلة وصول الشباب إلى اللعبة السياسية: من خلال تبسيط شروط الترشح (سواءً بالحصول على تأييد حزبي أو بدونه)، وتحمل الدولة 75٪ من تكاليف الحملة الانتخابية للمرشحين الذين تقل أعمارهم عن 35 عامًا.

 

بكل وضوح : لم نعد نكتفي بالترويج لـ"تمثيل الشباب" خطابياً فحسب، بل أصبحنا نضع المالَ والقانونَ والإجراءاتَ في خدمة تجديد حقيقي، في بلد طالما اختلط فيه "خطاب تمجيد الشباب" الشكلي بـ"احتكار لوائح المرشحين"،  وهو بهذا يُشكِّل منعطفاً جوهرياً، حيث يحوِّل ذريعةً خطابية إلى سياسةٍ عامة قابلةٍ للقياس والتحقق.

المنطق الاستراتيجي واضح وبسيط : تقليل تكلفة دخول الساحة السياسية أمام الوافدين الجدد يخلق الظروف الملائمة لظهور عرض سياسي أكثر تنوعًا،وبلفة اقتصاد الابتكار، يمكن القول إن الدولة تموّل مرحلة التمويل الأولي، وتخفض التكلفة الهامشية للحملة الأولى، وتنافس أخيرًا الامتيازات الحزبية الراسخة، حتى إذا رفضنا المصطلحات التقنية، تظل الفكرة  مبهرة : الديمقراطية، مثل السوق، لا تزدهر حين يحتكرها عدد محدود من الفاعلين، فهي تحتاج إلى اصطدامات بنّاءة، ونقاشات مستنيرة، ومواهب لا تمر بالضرورة عبر طقوس التوصية التقليدية. بهذا المعنى، فإن الإصلاح ليس هبة لجيل محدد، بل استثمار جماعي ينصب في جودة التمثيل السياسي.

ثمة أثر آخر ذو بعد أخلاقي،  فبافتراض أن المال يمثل عقبة حقيقية—فالحملات مكلفة، واللوجستيات مرهقة، والاتصالات تفرض نفسها—إلا أن الدولة أزالت عن كثير من الأحزاب ذريعة سهلة تقول : "كنا سنستقطب الشباب، لكنهم يفتقرون إلى الإمكانيات المالية". هذا الدعم المالي يقتل العذر، ويُلزم الأطراف المعنية، ويضع القيادات أمام المرآة : إذا استمروا في استبعاد المرشحين دون الخامسة والثلاثين، فلن يكون السبب نقص الميزانية، بل خيار سياسي متخذ يمكن تحمله ونقده. وهذا وحده يغير المعادلة، لأن الناخبين سيكونون قادرين على قراءة اللوائح وفهم الخيارات السياسية الحقيقية.
 

بالطبع، النص وحده لا يعد بتجديد النظام السياسي بالكامل. فالثقافة الديمقراطية لا تُفرض بمجرد نص قانوني. لكن التجربة الدولية توضح أن الهياكل المؤسسية تشكّل السلوكيات السياسية: إذ أن خفض الحواجز أمام الترشيح يزيد تلقائيًا عدد المتقدمين، وتنويع الملفات الانتخابية يغني النقاش العام، ودعم إشراك النساء والشباب يقرب البرلمان من واقع المجتمع. وبناءً على ذلك، فإن الهيكل الجديد يُهيئ، إذا ما التزمت الأحزاب باللعب وفق قواعده، لبرلمان أصغر سنًا وأكثر تمثيلًا للمرأة، ليس كموضة عابرة ، بل كنتيجة لإعادة تعريف الحوافز السياسية

ويبقى السؤال المثير للجدل: هل ستتبع الأحزاب هذا النهج؟ فالتعطيل الخلّاق نحتفي به غالبًا حين يزعزع الآخرين، لكن في صفوف العديد من القيادات الحزبية ستكون الإغراءات قوية للتكيف دون إصلاح حقيقي، عبر وضع "بعض الشباب" على الهامش لإعطاء الانطباع بالتجديد، أو الاستمرار في إحكام السيطرة على الدوائر الانتخابية المضمونة لنفس الشخصيات، والمسارات المهنية المتكررة، والعادات التقليدية في التهرب من المنافسة. هنا تكمن أهمية الإصلاح السياسي : فهو يكشف استراتيجية كل حزب بوضوح. ومع تخصيص الميزانيات وتخفيف الإجراءات، فإن أي حزب لا يقوم بتجديد حقيقي سيعرض أمام الجميع تفضيله للحفاظ على النخبة على حساب تنشيط الجسم السياسي ومنحه نفسًا جديدًا.
 

وهنا قدَّمت لنا الأحداث مفارقة غير سعيدة إن صح التعبير. ففي نفس عطلة نهاية الأسبوع التي تضع فيها الدولة الشباب في قلب الاستحقاقات المقبلة، يجدد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أمينه العام لولاية رابعة. من الناحية الشكلية، يمكن اعتبار ذلك استقرارا في الخط السياسي. لكن جوهريًا، إنه النقيض التام لما تحاول البلاد دفعه :فبينما تروّج السلطة التنفيذية لتداول الأجيال، تؤكد جهة من المعارضة قيادة طويلة العمر، مشبعة بالروتين. التباين صارخ، وهو أكثر قسوةً لأنهما حدثا في نفس التوقيت.
 

وهنا ينبغي الانتباه  : الأمر ليس توجيه نقد مباشر لحزب بعينه، فحزب الاتحاد الاشتراكي ليس الوحيد الذي تطيل قيادته في المناصب، بل الهدف من هذا المثال هو الإشارة إلى التناقض. فلا يمكن بجدية دعوة الشباب لـ"الانخراط في العمل السياسي"، وفي الوقت ذاته إخبارهم بأن غرفة التحكم تبقى محجوزة فقط لذوي الامتيازات القديمة، لا يمكن الحصول على برلمان شاب بينما تُحافظ الأجهزة الحزبية على عقمها الداخلي. وإذا لم تُساند الإصلاحات العليا بإصلاحات داخلية ملموسة، فإنها ستثير الاحتكاك بدل أن تحفز : مرشحون شباب قد يُوضعون بشكل رمزي، يُموَّلون لكن يُعزلون، يُعرضون على الواجهة لكن لا يُدمَجون في العملية السياسية
 

ومع ذلك، هناك دائما مفترحات أفضل . يمكن للأحزاب اغتنام الفرصة لإعادة هيكلة إجراءات الترشيح، وتجديد مدارسها السياسية، وفتح لجانها أمام ملفات مستقلة، والتعاقد مع المرشحات والمرشحين الشباب على أهداف واضحة للفترة التشريعية، مع جداول للتقييم، وشفافية في النفقات، وربما تنظيم انتخابات تمهيدية محلية بإشراف مناسب. الفكرة ليست تقليدا ل"وادي السيليكون" في السياسة، بل استيعابا لأهم دروسها: عندما يريد النظام تطببيق مبدأ التسريع، فإنه يخلق مسارات دخول مبسطة، وبرامج إرشادية، وقواعد لعبة واضحة، ويُقدر المخاطرة. إنه يفضل الخطأ التجريبي على الركود والراحة
 

كما يمكن لهذا الإصلاح أن يصحح تحيزًا جغرافيًا في العملية الانتخابية. فالتمويل العمومي الذي يغطي 75% من نفقات الحملات الانتخابية للشباب دون سن الخامسة والثلاثين ليس منطلقا اجتماعيا وفئويا ، بل يشكل دعمًا جغرافيًا أيضًا. ففي الدوائر الانتخابية النائية، حيث تعاني الموارد المالية من الندرة وتظل هيمنة كبار الشخصيات قوية، يمكن لضخ الأموال المخصصة للمرشحين الشباب أن يفتح ثغرات في احتكار النفوذ المحلي.
 

بشرط واحد: أن تقوم الإدارة التي ستتولى توزيع هذه التمويلات بذلك في إطار ضوابط رقابية صارمة، ومعايير شفافة، ومتابعة لاحقة دقيقة. لقد وضعت الدولة مبدأً؛ لكن التنفيذ الفعلي هو الذي سيحدد ما إذا كانت النتيجة ستكون نموذجاً يحتذى به . وتجدر الإشارة إلى أن النصوص التي اعتمدها المجلس الوزراي تؤكد أيضاً على جهود تخليص الانتخابات المقبلة من الشوائب — من خلال استبعاد من تثبت إدانتهم قضائياً مما يؤدي إلى فقدان الأهلية، وتشديد العقوبات على المساس بنزاهة الاقتراع. هذا ليس أمراً ثانوياً؛ بل هو العمود الفقري للثقة.

 

لا ينبغي إغفال السياق : فقد صادق نفس المجلس الوزراي على التوجهات الكبرى لمشروع قانون المالية لسنة 2026، الذي يعزز بشكل كبير الإنفاق على الصحة والتعليم، وهما قطاعان يشكلان جوهر مطالب الشباب الذين خرجوا للتعبير عن آرائهم في الأسابيع الأخيرة. في السياسة، تكمن أهمية الفعل في التوافقية. فتشجيع الشباب على دخول البرلمان أمر، ومنحهم القدرة على التأثير في السياسات العامة الملموسة — المدارس، المستشفيات، التنقل الاجتماعي — أمر آخر يكمله الأول. هنا نتجاوب الإشارة الميزانية مع الإشارة المؤسساتية؛ وإذا اتحدتا، يمكن للمشهد السياسي المغربي أن يتشبب دون انقسام، وأن ينفتح دون ضياع، وأن يحافظ على اتجاه اجتماعي ديمقراطي متوازن.
 

يبقى بعد ذلك عامل نفسي داخلي للأجهزة الحزبية. سيكون من السذاجة توقع أن تتنازل قيادة مستقرة منذ فترة طويلة عن امتيازاتها بسهولة. المقاومة ستظهر، وهي موجودة بالفعل، أحيانًا باسم الخبرة، وأحيانًا باسم الوحدة. إلا أن حجية الخبرة تتراجع عندما تتحول إلى عقيدة تدعي عدم القابلية للاستبدال. أما الوحدة، فهي ليست متماثلة مع التجانس : فالتنظيم السياسي الحي يعرف كيف يدمج التناقضات، ويجرب مسارات جديدة، ويحتضن القيادات الصاعدة. على النقيض، فإن عقلية "أنا هنا وسأبقى" تولد اللامبالاة. وهذه اللامبالاة، في السياسة، ليست حالة محايدة؛ بل هي هروب لأفضل الكفاءات نحو مسارات أخرى (ريادة الأعمال، المنظمات غير الحكومية، الشتات)، وهو خسارة كبيرة للمصلحة العامة للبلاد
 

إن التباين البارز هذا الأسبوع يبرز بوضوح : فالإصلاح الملكي الذي يسعى إلى رفع المستوى العام يتقابل مع تجديد انتخاب الأمين العام لحزب ما لفترة رابعة، وهو قرار ذو حمولة رمزية ثقيلة، ليصبح بذلك بمثابة اختبار حقيقي. وليس هذا اختبارًا لحزب ضد آخر، بل اختبار لنظام كامل أمام وعده بالتمدد والتجديد. لم تعد الكرة في ملعب السلطات العمومية فقط؛ بل أصبحت مباشرة في أيدي الأحزاب. يمكن لها أن تقاوم، أو تتلاعب، أو تعيد تدوير نفسها. أو يمكن أن تستغل هذه اللحظة لتنفذ أخيرًا ما يتوقعه المجتمع منها : تنظيم منافسة نزيهة للأفكار، وفتح الأبواب أمام المواهب التي لم تكن تملك الشفرات التقليدية، وقبول أن الديمقراطية المغربية لن تنمو في ظل بعض الأشجار التي تجاوز عمرها قرونًا.
 

إن "التعطيل الخلّاق" ليس مجرد موقف شكلي، بل هو جهد مستمر لتحقيق ما كان يُعتبر مستحيلًا، لإعادة توزيع الأوراق دون كسر الطاولة، ولحماية القواعد في تحد دائم للروتين المعتاد
 

وقد أخذ المجلس الوزراي المنعقد بتاريخ 19 أكتوبر نصيبه في هذه العملية، بإقرار أن المساواة في الوصول ليست مجرد شعار، بل تكلفة يجب تحملها وإطار يجب تأمينه. فآن للأحزاب الآن أن توائم أفعالها مع أقوالها. فإذا فعلت ذلك، سيكون المجلس المقبل أكثر شبابًا، وأكثر تمثيلاً للنساء، وأكثر قربًا من الواقع الفعلي للبلاد، وربما، على الرغم من اعتراض بعض أصحاب المصالح، سيكون أكثر صرامة ومحاسبة. أما إذا لم تفعل، فسيصبح التباين واضحًا، وسينهار مستوى الثقة، وسيسجل التاريخ أن الدولة مدت يدها بينما تمسكت الأحزاب بمناصبها

ليست الظروف السعيدة أو التعيسة مجرد قدر محتوم؛ فهي في واقع الأمر كاشفة للحقائق، فأسبوعنا هذا يذكرنا أن قراراً عمومياً مُصاغاً بحكمة يمكنه أن يخلق فرصة لمئات الشابات والشبان الذين كانوا ينتظرون مجرد إشارة ليعبروا العتبة، بينما يمكن لرد فعل بيروقراطي، في مؤتمر حزبي واحد، أن يسخر من المستقبل ويشوه صورة الغد.

بين هاتين الصورتين،  ثمة وطن يتحرك ويتغير، والآن المسؤولية نقع على كل فرد بأن يختار موقعه الصحيح ضمن هذا المشهد الثنائي






الاثنين 20 أكتوبر 2025

في نفس الركن
< >

الاثنين 20 أكتوبر 2025 - 12:38 كرة القدم المستحيل ليس مغربيا


              

تعليمات خاصة بركن «الرأي الحر / ضيوف المنبر / نبض القلم / بلاغات صحفية »
 
الغاية
هذا الركن مفتوح أمام المتصفحين وضيوف الجريدة للتعبير عن آرائهم في المواضيع التي يختارونها، شرط أن تظل الكتابات منسجمة مع الخط التحريري وميثاق النشر الخاص بـ L’ODJ.

المتابعة والتحرير
جميع المواد تمر عبر فريق التحرير في موقع lodj.ma، الذي يتكفل بمتابعة المقالات وضمان انسجامها مع الميثاق قبل نشرها.

المسؤولية
صاحب المقال هو المسؤول الوحيد عن مضمون ما يكتبه. هيئة التحرير لا تتحمل أي تبعات قانونية أو معنوية مرتبطة بما ينشر في هذا الركن.

الممنوعات
لن يتم نشر أي محتوى يتضمن سبّاً أو قدحاً أو تهديداً أو ألفاظاً خادشة للحياء، أو ما يمكن أن يشكل خرقاً للقوانين المعمول بها.
كما يُرفض أي خطاب يحمل تمييزاً عنصرياً أو تحقيراً على أساس الجنس أو الدين أو الأصل أو الميول.

الأمانة الفكرية
السرقات الأدبية أو النقل دون إشارة للمصدر مرفوضة بشكل قاطع، وأي نص يتبين أنه منسوخ سيتم استبعاده.


















Buy cheap website traffic