بقلم عدنان بنشقرون
فقط في سنة 2024 ، غيّر أكثر من 134 ألف مليونير بلد إقامتهم. لم يفرّ هؤلاء من كوارث أو صراعات، بل انتقلوا طوعًا بحثًا عن استقرار أفضل، بيئة أعمال أكثر جاذبية، وأسلوب حياة يليق بطموحاتهم. التقديرات تشير إلى أن حجم الأصول المهاجرة يتراوح بين 500 و1000 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتسارع هذا الاتجاه خلال 2025.
هذه الهجرة لا ترتبط فقط بالضرائب. فهؤلاء المستثمرون، غالبًا من رواد الأعمال أو مؤسسي الشركات، يبحثون عن مزيج متكامل من العوامل: استقرار سياسي، أمن قانوني، انفتاح عالمي، تعليم دولي، رعاية صحية عالية الجودة، وصورة دولية جذابة. ولهذا تتسابق دول عديدة لتهيئة الظروف المناسبة لاستقبالهم.
دبي طوّرت منظومتها بقوة عبر تأشيرات إقامة طويلة الأمد ومناطق حرة وحوافز ضريبية مدروسة. وسنغافورة عززت موقعها كمركز مالي محايد وشفاف. حتى السعودية، التي كانت خارج هذا السباق لعقود، بدأت تجذب الرساميل بفضل إصلاحاتها الجذرية. هذه الدول لم تكتفِ بجذب الأموال، بل استهدفت العقول والخبرات ومراكز القرار.
المغرب يملك بدوره مؤهلات معتبرة: استقرار سياسي نادر في محيطه، موقع استراتيجي بين أوروبا وإفريقيا، مناخ معتدل، تنوع ثقافي، دبلوماسية فاعلة. لكنه لا يزال يفتقر إلى منظومة متكاملة لجذب أصحاب الثروات، ولا يمتلك رؤية واضحة في هذا المجال. لا توجد تأشيرات ذهبية مخصصة لهم، ولا نظام ضريبي محفز، ولا إطار قانوني مرن للشركات العائلية.
مركز الدار البيضاء المالي يُعد خطوة واعدة، لكنه لا يزال غير مرئي دوليًا. كما أن خدمات إدارة الثروات في مراحلها الأولى، والبنية التشريعية غير مهيأة بعد لاستقبال هذا النوع من الرساميل المتنقلة. ما ينقص المغرب ليس فقط الأدوات، بل كذلك الرؤية الذهنية والانفتاح على هذا النموذج الجديد من الهجرة النخبوية.
هناك إشكال في الصورة النمطية التي تروَّج عالميًا عن المغرب ضمن منطقة مغاربية غير مستقرة. وهذه الصورة، وإن كانت غير دقيقة، تؤثر في قرارات المستثمرين الباحثين عن الوضوح القانوني والمالي. المستثمر الثري لا يملك ترف الانتظار أو المغامرة في بيئة غامضة أو بيروقراطية معقدة. إنه يتجه ببساطة نحو من يوفر له ضمانات مهنية وسرعة في التنفيذ.
هذا الواقع، رغم ما يحمله من مفارقات، يطرح فرصة استراتيجية غير مسبوقة أمام المغرب. هجرة الرساميل والمواهب ستتسارع، ومن لا يواكبها سيتخلف عن الركب. المطلوب هو التفكير بعقلية جديدة، تتجاوز الريبة من الأثرياء، وتراهم كمحركين للتنمية وشركاء في بناء اقتصاد حديث.
ولتحقيق ذلك، ينبغي أولًا إطلاق تأشيرة مخصصة للمستثمرين الكبار، ثم وضع نظام ضريبي محفّز خاص بهم، وتحديث الإطار القانوني لتأسيس شركاتهم بسرعة وشفافية. كما يجب بناء علامة المغرب كمركز استثماري راقٍ، عبر حملات ترويجية ذكية، وشراكات مع مؤسسات دولية كبرى.
المملكة تتوفر على اللبنات الأساسية، لكنها تحتاج إلى بنية متكاملة وإشارة سياسية قوية تُظهر استعدادها لاستقبال هذه النخب. إذا ما توفرت الإرادة ووضعت الاستراتيجية، يمكن للمغرب أن ينتقل من دور المتفرج إلى فاعل أساسي في إعادة توزيع الثروة العالمية.
هجرة الأثرياء، رغم ما يحيط بها من سوء فهم، ليست مجرد ظاهرة استهلاكية، بل تحمل فرصًا هيكلية هائلة. دول مثل السعودية فهمت الرهان وغيّرت قواعد اللعبة. والمغرب أيضًا يستطيع أن يصبح منصة للاستقرار والنمو، شرط أن يختار ذلك بوضوح، ويبدأ العمل فورًا