بقلم : عبد العزيز كوكاس
يعتبر التيه في السفر ثيمة مركزية، فهو ملازم لكل تجربة انتقال. إنه تلك المساحة الرمادية بين ما نظن أننا نعرفه وما يُصرّ العالم على مفاجأتنا به. يشبه العشق الأول: مربك، خادع، لا يُنسى. التيه ليس مجرد عدم معرفة الوجهة، ولا الضياع في اللاأين حين تفقد اللغة التي كنت تفهم بها ذاتك، بل هو مساحة لتجربة الدهشة نفسها.
تعتقد أن إتقانك للغات، اطلاعك على ثقافة البلد، معرفة الأماكن الأقل أمانًا، تجهيزك خريطة طريقك، وزيارة المتاحف والحدائق والمكتبات ستضمن عبورًا آمنًا وسلسًا. لكنك حين تصل، تكتشف أن كل تلك "الأسلحة المعرفية" تتهاوى أمام أول ارتباك حقيقي: فالفندق مغلق، المحطة أغلقت قبل الوقت، الشبكة لا تعمل. فجأة، أنت لا شيء، مجرد كائن مرتجف، غريب، ينظر حوله كمن ضاع من نفسه.
التيه يعيدك إلى حجمك الحقيقي: قزم، محدود، صغير. لكنه في الوقت ذاته، جميل، قابل للتعلم، للتعاطف، وللحب. تدرك فجأة أن المعرفة ليست امتلاكًا، بل بحث دائم. وأن الثقة بالذات هشة إن لم تُنسج بمحبة الذات والآخر، حين تُخطئ، تتلعثم، وتنهار أنانيتك لتنهض المحبة.
كلما وجدت نفسك تائهًا وتحتاج إلى من يرشدك، يخرج منك صوت متواضع: "من فضلك، هل يمكنك مساعدتي؟" وفي اللحظة التي يبتسم فيها الآخر ويقودك أو يزيل سحابة القلق، تدرك أن المحبة لغة كونية لا تحتاج ترجمة. هذا هو الدرس الكبير: جميعنا قابلون للخطأ ومستحقون للرحمة. هشاشتنا هي هويتنا الأجمل في السفر، نضحك من ارتباكنا، ونتطهر من الغرور لنصبح شفافين بما يكفي لتلقّي العالم.
في كوبنهاغن، ذات مساء شتوي رمادي، خرجت بلا هاتف ولا ساعة ولا رغبة محددة. مشيت عبر أحياء صامتة، محلات مغلقة، دراجات نائمة قرب الأشجار، ونوافذ مضاءة تكشف ظلالًا بشرية تشرب الشاي أو تتخاصم. كنت أعبر كأنني شبح حي، بلا عنوان، بلا لغة. كل خطوة كانت بحثًا عن إحساس، عن فرصة للإفلات من كل شيء: من الهوية، من التوقيت، من المنطقي والنافع.
في زاوية شارع مهجور، رأيت صبيًّا يرسم بالطباشير على الرصيف. جلست قربه دون كلمة، وابتسم لي وناولني قطعة طبشور. لم نسأل عن أسمائنا، ولم يكن أحد يشاهدنا، لم نلتقط صورة. فقط كنا هناك، نتواصل عبر فعل بسيط. هذا هو معنى المشي بلا وجهة: اكتشاف الذات وفعل أشياء لم تخطط لها.
التيه هو درس الحياة الأعظم في السفر. يُعلمك أن لا شيء تحت سيطرتك، وأن الفضيلة تكمن في الإصغاء للتفاصيل: طريقة قهوة الآخر، ملامح المقاعد، وجوه الناس في المحطات، قسوة الهواء ودفء العابرين. التيه يعني أن تمشي دون أن تعرف إلى أين، وتستقبل العالم بصدر مفتوح.
الضياع في المدن الغريبة يمنحك الفرصة لرؤية الجغرافيا السرية للأماكن: زاوية مفاجئة، ممر لم يرشده أحد، حديقة صغيرة، مكتبة مهملة، مطعم شعبي بعيد عن مطويات الرحلات السياحية. حين تضيع، تبدأ في رؤية ما لا يُرى، تجربة المدينة كما هي، وليس كما أرادت الخرائط أن تراها.
المشي بلا هدف قد يبدو تبديدًا للوقت، لكنه أصدق طريق للعودة إلى النفس. يظهر لك أشياء لم تضعها الخريطة: نافذة على الموسيقى، قطة تتدلّى من شرفة، طفل يقول "هالو". لا نضيع حين لا نعرف الوجهة، بل حين نرفض أن نسمح للعالم أن يفاجئنا. يقول جوزيف كامبل: "يبدأ السفر الحقيقي حين تترك خريطتك خلفك".
القبول باللاخطة هو جوهر الحكمة الساخرة: أن تحتفل بالفوضى، وتضحك من ارتباك الذات، وتقبل الخسارة جزءًا من التجربة. العبث، كما في مسرح بيكيت، هو احتمال مفتوح، وطاقة خام لم تُروّض بعد، تمنح السفر جماله الحقيقي.