انهيار المستشفى العمومي : حين يتحول الحق في العلاج إلى امتياز طبقي
الواقع لم يعد يحتاج إلى كثير من الشرح : مستشفيات عمومية تعاني خصاصاً خانقاً في الموارد البشرية والتجهيزات، ومصحات خاصة تتوسع بسرعة لافتة، تستقطب بخطاب الإغراء المالي والظروف الملائمة، أطباء كوّنتهم الدولة بمواردها وعرق دافعي الضرائب. النتيجة واضحة : خدمات عمومية تنهار، وانتظار طويل، ومرضى يُتركون في مواجهة المجهول.
التبريرات جاهزة : أجور ضعيفة، التجهيزات منعدمة، الأفق المهني مغلق. كلها أسباب وجيهة من منظور الطبيب، لكنها تتحول في منظور المواطن إلى خيانة مزدوجة: خيانة للرسالة الإنسانية للمهنة، وخيانة للثقة التي وضعها المجتمع في أطر أنفق عليها من المال العام لتخدمه أولاً وأساساً.
ما يزيد من خطورة الظاهرة هو أن الدولة نفسها ساهمت، بوعي أو بدونه، في تكريسها. فبين السماح الضمني للجمع بين امتهان القطاع العام والخاص، وغياب تنزيل صارم لقانون الوظيفة العمومية الصحية، وغياب رؤية شجاعة لإصلاح المستشفيات العمومية، هنا الحكومة ترسل إشارة واضحة مفادها أن : الباب مفتوح لمن أراد الرحيل، والخاص سيظل البديل.
طب بطبقتين
لا يمكن الاستمرار في هذا الوضع المختل دون ثمن اجتماعي باهظ، نحن أمام "طب بسرعتين": واحد للأغنياء يفتح أبوابه في المصحات المجهزة، وآخر للفقراء والمناطق الهامشية محكوم بالانتظار الطويل وانعدام التخصصات. هكذا تتعمق الهوة بين فئات المجتمع، وتُكرَّس قطيعة خطيرة في العدالة الصحية.
الحكومة ترد بزيادات في الأجور وإطلاق مشاريع للتكوين، لكن هذه الحلول الترقيعية لا تجيب عن السؤال الجوهري: كيف نجعل المستشفى العمومي فضاءً جاذباً للأطباء؟ الجواب لا يكمن فقط في المال، بل في الكرامة المهنية : تجهيزات حديثة، مسار وظيفي واضح، احترام ساعات العمل، وضمان بيئة تسمح للطبيب بممارسة مهنته بكفاءة، لا بعشوائية وإحباط.
في المقابل، على القطاع الخاص أن يُنظر إليه كشريك لا كخصم، لكن شراكة مشروطة بالمسؤولية الاجتماعية. فالمصحات لا يمكن أن تبقى مجرد شركات ربحية، بل عليها أن تُدمَج في سياسة صحية وطنية تُلزمها بالشفافية في الأسعار، بتوزيع جغرافي أكثر عدلاً، وبفتح أبوابها أمام طلبة الطب والمقيمين.
المعضلة اليوم ليست في اختيار الطبيب بين القطاع العام والخاص، بل في غياب قرار سياسي جريء يعيد الاعتبار للصحة العمومية باعتبارها ركيزة من ركائز المرفق العام. إذا استمر نزيف الأطباء بلا إصلاح عميق، فإننا نتجه نحو نظام صحي يكرس الامتياز الطبقي، حيث يجد الغني علاجه فوراً، بينما يُترك الفقير على عتبة المستشفى العمومي.
في النهاية، الأطباء الذين يغادرون العام ليسوا مسؤولين عن الأزمة، بل ضحايا بدورهم لمنظومة أفرغت القطاع العمومي من جاذبيته. لكن الضحية الكبرى هو المواطن المغربي، الذي لا تعنيه حسابات الأجور ولا الاستثمار الخاص، بل يهمه أن يجد طبيباً يداويه في اللحظات الحرجة. وأخطر ما قد يحدث هو أن يتحول هذا النزيف الصامت إلى استسلام جماعي، حيث يصبح الحق في العلاج رفاهية، ويغدو المستشفى العمومي صرحاً مهجوراً يئن تحت وطأة الإهمال