أبناء الجيل الجديد، الذين وُلدوا وأجهزتهم الذكية في أيديهم، لا يتحدثون لغة الآباء نفسها، ولا يشاركونهم نفس مصادر المعرفة ولا حتى نفس سرعة الحياة. فهم يستهلكون المحتوى بسرعة، يتأثرون بالمؤثرين الرقميين، ويفضلون التفاعل عبر الرموز والإيموجي على التفاعل الإنساني المباشر. في المقابل، الآباء الذين ينتمون إلى زمن آخر، يحاولون اللحاق بهذا القطار التقني المتسارع، لكن أغلبهم يجد نفسه ضائعًا بين حنينه للتواصل الحقيقي وواقع ابنه الذي لا يرفع عينيه عن الشاشة.
أما الأجداد، فغالبًا ما يُقصون دون قصد. العالم الرقمي لا يعترف بمن لا يتقن تقنياته، وبالتالي يجد الكبار أنفسهم خارج الزمن الجديد، عاجزين عن التواصل مع أحفادهم، أو حتى فهم التغيرات السريعة التي طرأت على أبنائهم. هذا الإقصاء غير المعلن لا يحرمهم فقط من التفاعل، بل يسلبهم أيضًا جزءًا كبيرًا من دورهم الرمزي داخل الأسرة.
وتنعكس هذه الفجوة في تفاصيل الحياة اليومية. الأسرة التي كانت تجتمع حول "الطابلة" وتتبادل القصص صارت كلّها حاضرة بجسدها وغائبة بذهنها، كل فرد مشغول بشاشته الخاصة. الحوارات العائلية صارت نادرة، والدفء الذي كان يُغذي الروابط الأسرية تراجع لحساب الاتصال الرقمي البارد. المفارقة أن الجميع متصل، لكن لا أحد حاضر حقًا. المراهق يقضي ساعات في محادثات مع غرباء لكنه يعجز عن إخبار والده بما يقلقه، والأم تضحك على فيديوهات قصيرة لكنها تفتقد حوارًا عميقًا مع ابنتها.
هذا التباعد لا يُعالج فقط بالتقنيات، بل بالعودة إلى الإنسان. المطلوب ليس منع الإنترنت، بل إعادة التوازن. يمكن خلق لحظات عائلية صغيرة خالية من الشاشات: فطور جماعي، جلسة شاي، أو حتى نزهة بدون هواتف. كما أن تقاسم المعرفة الرقمية بين الأجيال يمكن أن يكون جسرًا، بدل أن يكون حاجزًا. أن يعلّم الحفيد جدته كيف ترسل رسالة صوتية، أو أن يقرأ الشاب نشرة الأخبار لجده… هي أفعال صغيرة لكن تأثيرها عميق.
في ثقافتنا، كان الحوار ركيزة أساسية. في الدين، الحوارات القرآنية بين الآباء والأبناء تؤكد على أهمية التفاهم لا الفرض. في تقاليدنا، كانت النار تجمع الجميع، واليوم يمكن للشاشة أن تفعل الشيء نفسه… شرط أن نستخدمها كوسيلة لا كحاجز.
الرقمنة ليست عدوًا. لكنها تصبح خطرًا حين تَفصل بدل أن تَربط. أمامنا فرصة لإعادة تشكيل العلاقة داخل الأسرة المغربية، ليس من خلال تقنيات جديدة، بل من خلال إرادة حقيقية للإنصات، والفهم، والتشارك.