بقلم: الصديق معنينو
شكلت لجنة تنظيمية بسرعة، وجهت الدعوات، ورتبت أماكن الاجتماع، وتحققت من هوية القادمين. المفاجأة كانت صادمة: عدد الشهداء لم يتجاوز نصف مليون، بينما كان الاعتقاد السائد أن عددهم يفوق المليون والنصف. في تلك اللحظة، خيم صمت مؤلم، وكأن الأرواح تساءلت في دهشة: “أين بقيّة من زُعم أنهم ماتوا في سبيل الوطن؟ هل اختلطت دماء الضحايا بدماء الجلادين؟”
جلس الجميع. وجوه مضيئة، وعيون تحمل مزيجاً من الأمل والخذلان. بدأ النقاش واستُعيدت الذكريات: أيام النضال، ساحات الكفاح، السجون، الرصاص، والصمت الطويل الذي تلا كل جنازة. لم يكن اللقاء عادياً. كان محمّلاً بالأسى والأسئلة الكبرى.
وصل بعض الرؤساء السابقين للمشاركة. تقدم أحدهم للحديث، لكن تم رفضه فوراً من قبل المؤتمر. لقد أضرّ بالثورة، سجن رفيقه، دخل في عنادٍ سياسي عقيم، وأضاع سنوات من عمر الوطن. جاء آخر، فوجد نفسه في قفص الاتهام: عشرية دموية كانت عنوان حكمه، سقط فيها مئات الآلاف من القتلى. قرر المؤتمر اعتبار قتلى تلك العشرية شهداء، سمح لهم بالحضور ولكن حُرِموا من التصويت، لأنهم كانوا ضحايا وليسوا فاعلين. تم التعهّد بملاحقة القتلة وتقديمهم لمحاكمة ربانية بمساعدة من الملائكة.
ثم دخل الرئيس الذي جاء على كرسي متحرك، مدّعياً أنه خُدع، وأن نيته كانت الإصلاح، وأن ولايته الخامسة جاءت بناءً على رغبة شعبية. نظر إليه الشهداء لحظة، ثم قرروا إبعاده وتقديمه للمحاكمة، معتبرين أن شهداء العشرية سيكونون شهوداً وقضاة.
في خضمّ النقاش، وصلت برقية في غلاف أنيق، كُتب عليه أنها صادرة من “الدولة القوية” صاحبة أقوى اقتصاد في العالم. تحدّثت عن الطوابير باعتبارها ظاهرة إنسانية، وعن شراء الأكباش كمبادرة جيدة رغم الفوضى، وأكدت أن تطويق البلاد مؤامرة خارجية. تحدّث صاحب البرقية عن تحلية البحر، وإنجازات اقتصادية تتجاوز أوروبا، وختم بطلب التصفيق، وتخصيص مقعد له بصفته “أحسن الرؤساء”.
درست اللجنة البرقية… وقررت بالإجماع إرجاعها مع ملاحظة وحيدة مكتوبة بخط غليظ: “يُحال على المستشفى المختص…”.
انطلقت المداخلات. كل شهيد عبّر عن وجعه، عن خيبة روحه. قال أحدهم:
“شهادتنا تُمرّغ في التراب… تُذكر بلا مناسبة… أصبحنا سلعة يتاجر بها الوصوليون… صرنا قميصاً يتزيّن به الطامعون… تُستغلّ تضحياتنا في المسرح السياسي القذر… حسبي الله ونعم الوكيل.”
وقف الجميع للصلاة. أذّن الملائكة، وعمّ الصمت. تضرّعوا لله من أجل تغيير المنكر، وإعادة الكرامة لدمائهم.
ثم دوّى صوت عظيم من السماء:
“أيها الشهداء… لا حول ولا قوة إلا بالله… وصل قصدكم… ستتغير الأمور… سيرحل المتسلطون… ستتطهر الأرض… أنتم في النعيم… بشراكم.”
صاح الجميع: “الله أكبر… مدنية وليست عسكرية”.
قرروا الصلاة حتى سقوط العسكر. اقترح بعضهم الاعتصام في السماء حتى رحيل العصابة. دقّت الطبول، وردد الملائكة بشارة السماء: “الفرج قريب…”.
وانتهى مؤتمر الأنوار.