فن وفكر

“لو يخجل الموت قليلا” لكوكاس: هسيس كلمات الغائبين


حقيقةً ليست تفاصيل هزيمة الجسد، وتناقصات طاقته التي تخبو عِرقاً عرقا، نبضا نبضا، أحيانا دون مقدمات تسمح بترتيب المغادرة، وحينا في تثاقل يبدو فيه المرض والوهن كذئب شبقي يتلهّى بقضم هادئ لكل تفاصيل وليمة الافتراس السعيد، كل هذه المعركة المنذورة لهزيمتنا أمام الموت، هي جبهة نحظى فيها غالبا بمن يؤازرنا ومن يذود عنا براثين قبضة المنايا القاسية، إن كل هؤلاء الخبراء في تأخير الشهقة الأخيرة، هم من يتبقى معنا في مواعيدنا الحميمة مع انكسارات الروح، ونخب كوكتيل الأوجاع الأخير،



لهذا لا نكون وحدنا تماما أمام الألم، وأمام انحطام الجسد، لكن هناك معركة أخرى للأموات الأحياء، لا أحد يسعفهم فيها حينما ينغرز النصل القاتل في لحم وجودنا، إنها معركة فقدان الكلمة.

يقاوم الإنسان ارتاج الكلام وتخشّب اللسان بكل ما أُوتي من قوة، حتى ليبدو أن هذه المعركة تُنسيه لهيب الوجع وأُوّارَه الذي يلتهم وظائفه الحيوية في إصرار وانتشاء؛ أجل إن المُحتضر يدرك أنه في طور فقدان الحياة، وهذا ما يحتمله في قوة المنهزمين النبلاء، لكنه لا يُطيق أن تُسرق أو تُسحب منه قدرة التعبير عن وجعه العميق، وعن وصاياه، وعن حكاياه، وعن قصده، وحبه وغضبه وضغينته وكل ما يختلج في سرائره مما نضج للبوح في آخر الرحلة، وفي النفَس الأخير. كيف نحول هذا النفس إلى كلمة أخيرة؟ هذا هو تحدي الموتى الكبير، كيف لا يُسرقون من لغو الحياة نحو صمت العدم؟ إن ذلك هو ما يتبقى دائما من معركة وجودنا قبل انسدال الستار.. وهذا ما يحاول قوله بصيغة متفردة الكاتب عبد العزيز كوكاس في هذا المقام.

يصارع الموتى الصمت الثقيل فيتحدثون بأعينهم حينما تخذلهم ألسنتهم، بآخر ارتعاشات الجسد يصرون على قول جملة أخرى قبل الرحيل، بتلميح عنيد من أصابعهم وقد تشنّجت واستسلمت لثقل التراب وهو يستدرجهم بعيدا عن نسغ الحياة، بتخبط قدم تصر على الرغبة في المزيد من السير رغم عناد الطريق وقسوة عبارة “نهاية السير”، يقاوم الموتى اغتيال الكلمات بحشرجة عنيفة تعاند بانبهامها فقدان البيان، ولكن الصمت مع ذلك يبتلعهم قبل القبر، فيتحولون إلى ضمير غائب أبدي يحرُم عليه بالمطلق استعمال ضمير المتكلم.

هذه المعركة المؤلمة حيال الصمت والكلام، الحضور والغياب، ضمير المتكلم وقد جندله ضمير الغائب الكئيب، هي ما سيرفع رايتها الأستاذ المبدع عزيز كوكاس في هذه المرثية السعيدة والعميقة، إنه من جهة يحاول تهريب ضمير المتكلم نحو مملكة الغياب، فيأخذ بشكيمة الكلمات في مهارة فارس خيَّال، ويُرغمها على أن تقولَهُ حتى وإن غاب يوما، وهي تسعفه في ذلك طائعة، بقدر ما يستطيع تطويعها وترويضها كي تنكفئ على نفْسها فلا تترك في الخطاب فراغا، وهذا ما نستشفه من عبارات كثيرة من قبيل “أحسسْتُني”، “اعتقدْتُني” ، لقد كانت هذه المرثية الباذخة والصادقة والمشحونة، صراعا قويا مع ما لا تستطيع الكلمات قوله، لأن الموت هو ما نراه حينما لا نرى شيئا، وهذا العماء الثقيل الذي يعز عن الكلام، هو ما تحدّاه مبدعنا كي يفرض على الكلمات تجاوز المساحات الممنوعة والصامتة للعدم أو اللَّيس، كما يحلو له مستلهما معجم الكندي، وقول ما لا يَنَقالُ، هذا ما جعل “الصفحة الأخيرة” عنوانا لمقدمة مرثية الغائبين هذه، إنها دُربة الكتابة حينما تتحول إلى فن ترويض الكلمات وليس فقط تنميقها وتوشيتها: “تعلمت فن تدوير الكلمات وسحر أثرها، عشقت الليل وآخره بجنون.. كنت نحيفا مثل ساقي طائر الكركي، حتى أن أقل نزوة ريح كانت تسحبني معها بعيدا، فأراني في الأفق محلقا..” وهي ريح تسحب القارئ أيضا إلى عتبات القول المستحيل؛ أو على الأقل إلى الممكن من “الرثاء الذاتي” ومن الحضور في الغياب.

الجبهة الثانية التي يخوضها عزيز كوكاس في مواجهته لامتناعات الكلام في وجه صمت الموتى، تفتح معركةً تتجاوز تحديات البلاغة، نحو مقتضيات الفضيلة، ذلك لأن كل ميت يفقد الكلمة قبل أن يفقدنا، وفي الغالب تأخذنا اللغة الجنائزية بلوعاتها إلى الحديث عن وجعنا وعن فاجعتنا وعن فقدنا، وننسى أن نفسح للموتى مكانا في لغتنا، فنزيدهم بضجيج منادبنا صمتا على صمتهم، محوا على غيابهم، ونحن نذكرهم في التياعِنا إنما نمارس على غيابهم الكثير من المحو، لأننا نستحضر قبل كل شيء ألم الباقين، وأحيانا في عتاب لمن رحل، هذا ما حاول كوكاس أن يعكسه، وهو يمتشق سيف ناطور الفسح الباردة لليل الغياب ضد غرابيب الجحود الكنودة، بعد أن تحول إلى “حارس وادي النسيان”.

هذا الحارس الذي فرش في تواضع وإيثار كلماته للغائبين كي ينبعثوا مرة أخرى في ضوء الكلام، فإذا بهم مرة أخرى يستعيدون ملامح الحياة، ويرفلون في أبهة لغة كوكاس الشاعرية التي لم تفقده مهنة الصحافة فخامة الكلمات، وعراقة المعجم وفحولته، وإذا به “ينشر” وجودهم بعيدا عن مصائد النسيان، فجعلنا نعرفهم واحدا واحدا، ينبضون بالحياة في خيالنا، كأننا جالسناهم وحادثناهم، وشاركناهم سمر لياليهم وسردياتهم، عرفنا الأب والأخ والأم التي لرقّة ما كتب في حقها، صارت أُمّنا جميعا، والتقينا كل تلك الأسماء اللامعة التي غادرتنا في غفلة من الحياة، فتذكرنا ملامح أصحابها، ونبرة صوتهم، وبصمة فكرهم ومواقفهم، وجلسة الشّلة في دفء الصداقة واضطرام الأفكار، هذا الانبعاث والاستذكار لم يكن بلغة عزيز مجرد استحضار، بل حضورا عجيبا بقدر ما أسعفته اللغة، وأخلاق الاعتراف، وهكذا استطاع أن يكسر سطوة الصمت والموت، بقوة الكتابة، وهكذا جعل الموت “يخجل قليلا”.

متأكد أن القارئ سيستعيد في هذه المرثية التي تنثال كلماتها كسحائب مبخرة عود في جنازة هادئة، الكثير من وجع الفراق، والكثير من صور الصمت، لكن هذه المرة قد تسعفه الكلمات التي تقدمها هذه الصفحات، لكي يقول لأحبّته ما لم يستطعه تحت صدمة الفقد، وسيسمع لا محالة هسيس كلمات الغائبين، تطمئنه بأنهم بخير، مادام أن اللغة ما تزال تأويهم ضد قسوة الموت، حينما يتمكن بعض الفرسان من كسر سيف المحو بقوة الإبداع. شكرا عزيز باسم الفاقدين وباسم المفقودين.

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاثنين 9 يونيو/جوان 2025
في نفس الركن