كتاب الرأي

فيلم “المواطن كين” أسطرة السلطة وضياع الحقيقة


يعتبر فيلمCitizen Kane أول عمل لمخرج شاب اسمه أورسن ويلز، كان حينها في الخامسة والعشرين فقط، قادماً من المسرح والإذاعة، يحمل طاقة تجريبية هائلة. منحه استوديو RKO حرية مطلقة، وهو أمر غير مسبوق في هوليوود الكلاسيكية التي كانت تقوم على نظام النجوم والمخرجين المطيعين.



بقلم: الكاتب والإعلامي عبدالعزيز كوكاس

وبهذه الحرية، صنع فيلماً أشبه بزلزال جمالي وسردي غيّر مسار السينما إلى الأبد. بعدما حُورب من قِبل إمبراطور الصحافة ويليام راندولف هيرست (الذي استلهمت منه شخصية كين) أصبح “المواطن كين” لعقود أيقونة النقد السينمائي، وغالباً ما وُصف بأنه “أعظم فيلم في التاريخ”، تكمن قيمته في ابتكاراته التقنية وفي رؤيته الوجودية: السلطة كقناع هش يخفي فراغاً داخلياً لا يملأه شيء.

ومنذ ظهوره سنة 1941، استمر فيلم “المواطن كين” لأورسون ويلز في إثارة الجدل النقدي ويحتل رأس لوائح “أفضل فيلم في تاريخ السينما”، لأنه يمثل لحظة انفجار جمالي هز يقينيات هوليوود الكلاسيكية، وأعاد تعريف معنى السرد السينمائي. وجد ويلز نفسه في مواجهة مؤسسة مترسخة، ومع ذلك، صنع فيلماً بدا كأنه يتجاوز زمنه.

كيف تتحول حياة إلى لغز غير قابل للحسم
يبدأ الفيلم من النهاية: موت الملياردير ورجل الإعلام تشارلز فوستر كين، وسط قصره المهيب “زانادو”.

آخر كلمة تفوّه بها وهو يلفظ أنفاسهRosebud ، من هذه الشظية اليتيمة تنطلق آلة الصحافة للبحث عن المعنى: ماذا كان يقصد؟ هل روزبد” امرأة، مدينة، خيانة أم مجرد لغز؟ كل شخصية تقابلها الكاميرا تسرد “كينها” الخاص، رؤيتها الخاصة للرجل، لكن الحقيقة تبقى متوارية.. هكذا يبني ويلز فيلمه على تشظي الذاكرة، حيث يتجاور السرد الموضوعي والذاتي، وحيث كل رواية تكشف بقدر ما تحجب.

“روزبد” الكلمة الأخيرة التي ينطقها كين وهو يحتضر، تكشف في النهاية عن اسم زلاجة طفولته. لكن هذا الاكتشاف لا يقدّم جواباً بقدر ما يضاعف الغموض: هل كل مجد السلطة والثروة لم يكن سوى محاولة لتعويض لحظة براءة ضائعة؟ أم أن الإنسان، مهما بلغ من قوة، يظل يطارد ظل طفولته المستحيلة العودة؟ إن عبقرية الفيلم تكمن في أن “روزبد” استعارة عن الحنين الذي لا يُروى.

بدلاً من السرد الخطي، قدّم ويلز فيلم “المواطن كين” عبر موزاييك من وجهات النظر، كل شخصية تسرد كين من زاويتها الخاصة: الصديق، الزوجة، الخادم، الصحافي. لكن النتيجة فسيفساء متكسرة. ليست الحقيقة هنا جوهراً يمكن القبض عليه بل بقايا متناقضة من ذكريات الآخرين، حين يسعى الصحافي لاكتشاف معنى كلمة “روزبد”، يصبح هو نفسه جزءاً من لعبة الوهم، تتبخر الحقيقة كلما اقتربنا منها.

يبدو قصر “زانادو”، المليء بالتحف والتماثيل مثل قبر ضخم يحتجز كين في عزلة مطلقة. لقد جمع كل شيء، لكنه لم يستطع أن يملأ فراغه الداخلي.. الإنسان الذي يملك العالم لكنه يخسر نفسه. كل مشهد في القصر يفضح التناقض بين الفخامة الخارجية والوحدة الداخلية، بين الامتلاك والحرمان.

وبجانب بعده الوجودي، يُعد فيلم “المواطن كين” أيضاً قراءة سياسية في زمنه. كين إمبراطور الصحافة الذي يوجه الرأي العام ويصنع الحقائق حسب مصالحه، يعكس خطورة الإعلام حين يتحول إلى سلطة مطلقة بلا مساءلة، لقد سبق ويلز عصره في تشريح علاقة السلطة بالخطاب الإعلامي، وهي علاقة لا تزال تلقي بظلالها على عالمنا المعاصر.

إن عبقرية ويلز تكمن في جعله من السرد السينمائي تأملاً وجوديا، الصحافة، التي تبحث عن يقين، تعجز عن العثور عليه. الشخصيات، التي تزعم أنها عرفت كين، تنقل إلينا روايات متناقضة. والذاكرة، التي تبدو في ظاهرها سجلاً للحقيقة، تتحول إلى فضاء للالتباس. هكذا يتحول الفيلم كله إلى سؤال حول إمكانية المعرفة ذاتها :هل نعرف حقاً من هم الآخرون وهل نعرف أنفسنا؟

وربما لهذا السبب بالذات، بقي فيلم “المواطن كين” حياً. ليس لأنه يحكي قصة رجل عظيم سقط، بل لأنه يحكي مأساة إنسان عادي لم يتجاوز جرح طفولته، فابتلعته لعبة السلطة والمجد. كل ما تبقى في النهاية، كل ما اختُزلت إليه حياة مليئة بالثراء والنفوذ، هو كلمة وحيدة تتبخر في الهواء: “روزبد”.

تتميز البنية السردية للفيلم بتعدد الرواة، كل شخصية تروي جانباً مختلفاً من حياته، لا نعرف الحقيقة في خط واحد، بل عبر شظايا من الذكريات والشهادات. من هنا غياب اليقين، لا أحد يعرف في النهاية المعنى الحقيقي لـ “Rosebud باستثناء المتفرج.

ولادة شكل جديد للسينما
أحدث ويلز ثورة بصرية حين استعمل العدسة ذات العمق الميداني التي جعلت كل عناصر المشهد الأمامية والخلفية واضحة بالتساوي وسمحت بخلق تركيب بصري متعدد الطبقات. العالم كله حاضر في آن واحد، الماضي يتقاطع مع الحاضر، وكل شيء مكشوف أمام العين، باستثناء حقيقة كين الداخلية. مما منح الصور كثافة مسرحية. إلى جانب ذلك، لعبت زوايا الكاميرا المنخفضة دوراً في إبراز سطوة الشخصية وهيمنتها، فيما تبدو الجدران والسقوف كأنها تسحق البشر تحت ثقلها..

جماليات الفيلم توازي غموض الحكاية، استخدام العمق الميداني جعل كل مستويات المشهد ـ من أقصى المقدمة إلى آخر الخلفية ـ واضحة في آن واحد، كسرت الكاميرا المنخفضة التي صورت السقوف وأعطت الشخصيات ضخامة أسطورية، قواعد التكوين الكلاسيكي. وحولت الإضاءة المتباينة، المستعارة من التعبيرية الألمانية، الظلال إلى كائنات حية تراقب الشخصيات مثل أشباح ماضية لا ترحم.

لم يحقق “المواطن كين” عند عرضه الأول، نجاحاً جماهيرياً بسبب تشابه شخصية كين مع قطب الإعلام ويليام راندولف هيرست، الذي حارب الفيلم. لكن مع مرور الوقت، أصبح نموذجاً يدرَّس في معاهد السينما وأثر في أجيال من المخرجين: من كوبولا وسكورسيزي إلى سبيلبرغ ونولان.

كوبريك في “2001” وكوروساوا في “راشومون”، حتى تارانتينو في تجريب السرد.

تحول “المواطن كين” إلى مدرسة في السرد واللغة البصرية، ومع ذلك، تظل عظمته في أنه يظل مفتوحاً على قراءات لا تنتهي: هل هو فيلم عن الإعلام؟ عن الطفولة الضائعة؟ عن الحقيقة المستحيلة؟ أم عن الإنسان الذي يغرق في مرايا ذاته حتى لا يعود يرى نفسه؟

سيظل “المواطن كين” تحفة تقنية وسردية، وتأملا وجوديا في هشاشة السلطة وضياع الحقيقة، يذكّرنا أن كل مجد سياسي أو إعلامي أو مالي ليس سوى محاولة يائسة لملء فراغ لا يُملأ.

وحين تحترق “روزبد” في الموقد، لا يحترق معها سر كين فقط، بل يحترق وهمنا نحن بأن الحقيقة يمكن أن تُقبض بالكامل. ف”روزبد” ليست مجرد لعبة مكسورة، بل استعارة عن براءة ضاعت وسط طموح السلطة.

إنه فيلم عن الإنسان قبل أن يكون عن السلطة. عن الذاكرة كقوة مفقودة وعن كيف تتحول حياة كاملة إلى لغز غير قابل للحسم. إن لقد أنجز ويلز قصيدة بصرية تقول لنا: السلطة، المجد، المال… كلها سراب. ما يبقى هو صرخة طفل يتيم ضاعت لعبته، وضاع معها العالم.




الاثنين 15 ديسمبر 2025

              

تعليمات خاصة بركن «الرأي الحر / ضيوف المنبر / نبض القلم / بلاغات صحفية »
 
الغاية
هذا الركن مفتوح أمام المتصفحين وضيوف الجريدة للتعبير عن آرائهم في المواضيع التي يختارونها، شرط أن تظل الكتابات منسجمة مع الخط التحريري وميثاق النشر الخاص بـ L’ODJ.

المتابعة والتحرير
جميع المواد تمر عبر فريق التحرير في موقع lodj.ma، الذي يتكفل بمتابعة المقالات وضمان انسجامها مع الميثاق قبل نشرها.

المسؤولية
صاحب المقال هو المسؤول الوحيد عن مضمون ما يكتبه. هيئة التحرير لا تتحمل أي تبعات قانونية أو معنوية مرتبطة بما ينشر في هذا الركن.

الممنوعات
لن يتم نشر أي محتوى يتضمن سبّاً أو قدحاً أو تهديداً أو ألفاظاً خادشة للحياء، أو ما يمكن أن يشكل خرقاً للقوانين المعمول بها.
كما يُرفض أي خطاب يحمل تمييزاً عنصرياً أو تحقيراً على أساس الجنس أو الدين أو الأصل أو الميول.

الأمانة الفكرية
السرقات الأدبية أو النقل دون إشارة للمصدر مرفوضة بشكل قاطع، وأي نص يتبين أنه منسوخ سيتم استبعاده.


















Buy cheap website traffic