فن وفكر

«شكل الماء».. حين يتحوّل الخيال إلى مرآة للإنسان في سينما غييرمو ديل تورو


يفتح فيلم «شكل الماء» بوابة واسعة على عالم غييرمو ديل تورو المليء بالرموز والدلالات، حيث تختلط الأحلام بالكوابيس، وتتحوّل الكائنات الغريبة إلى شخصيات تحمل رسائل إنسانية مؤثرة. منذ اللقطة الأولى، يدعو الفيلم المشاهد إلى تساؤلات وجودية حول الحب والاختلاف والحرية، في عالم لا يكف عن ممارسة السيطرة وإقصاء المختلف. وبحس شاعري، يجعل ديل تورو من المخلوق المائي مرآة للذات البشرية، ومن إليسا صوتًا للصمت والمهمشين.



مدخل إلى عالم الساحر المكسيكي

يقدّم الفيلم قصة إليسا، عاملة صامتة في مختبر سري خلال الستينيات، والتي تجد نفسها منجذبة إلى كائن مائي محتجز داخل منشأة حكومية. ينسج ديل تورو علاقة غير مألوفة تتجاوز حدود الجسد والصوت، معيدًا تعريف الحب كقوة قادرة على اختراق أكثر الجدران صلابة. في خلفية سياسية مشحونة بالحرب الباردة، يصبح هذا الحب فعل مقاومة، وصرخة في وجه المنظومة التي تريد تحويل الكائن إلى “تجربة”.

سرد بصري يستحضر الشعر داخل الصورة
يعتمد الفيلم على سرد بصري بطيء وهادئ، يسمح للمشاهد بالغوص في عالمه الرمزي. فالماء، بكل أشكاله، يصبح لغة كاملة تعكس الحرية والتحوّل والاختلاف. وتتحوّل الكاميرا إلى أداة لصياغة المشاعر: لقطات مقربة، إضاءة خافتة، وألوان باردة تمنح الفيلم جمالًا بصريًا نادرًا. هكذا يصبح “شكل الماء” لوحة سينمائية متكاملة، تنطق بالصمت وتحتفي بالحسّ الإنساني قبل أي شيء آخر.

أبعاد إنسانية تتقاطع مع نقد اجتماعي
يظهر الفيلم كصرخة ضد القمع والتمييز، عبر شخصيات مكسورة تحاول الحفاظ على إنسانيتها: إليسا الصامتة، صديقها الفنان المنبوذ، وزميلتها السمراء التي تواجه عنصرية المجتمع. وفي المقابل، يقف النظام العسكري ـ ممثلًا في شخصية مايكل شانون ـ كرمز للوحشية المقننة. وهنا يطرح ديل تورو سؤالًا مركزيًا: من هو الوحش الحقيقي؟ المخلوق المختلف أم الإنسان الذي فقد رحمته؟

 الموسيقى والتصميم الفني.. لغة موازية للسرد
تُعد الموسيقى التصويرية لألكسندر ديسبلات من أهم أعمدة الفيلم، إذ ترافق المشاهد كنبض خفي يوازن بين الرهبة والرومانسية. ويعكس تصميم الإنتاج جماليات فترة الستينيات بدقة لافتة، من المختبرات إلى الشقق الصغيرة، ما يمنح الحكاية مصداقية تاريخية وروحًا نوستالجية. أما المخلوق المائي، فقد صُمّم بمهارة تجعل منه شخصية نابضة بالحياة، تجمع بين الغموض والبراءة.

 الحب المستحيل.. لغة تتجاوز الصمت
تخلق العلاقة بين إليسا والمخلوق مساحة إنسانية خاصة، حيث يصبح الصمت لغة كاملة. فإليسا، التي لا تتكلم، تجد في هذا الكائن ما يشبهها: الهامشي، المختلف، الذي لم يمنحه العالم فرصة للتعبير. ومن خلال النظرات واللمس والماء، ينجح الفيلم في تقديم قصة حب تتجاوز حدود اللغة والهوية، وتعيد الاعتبار للعاطفة كقوة جمالية قادرة على كسر المستحيل.

 المخلوق المائي.. رمز الاختلاف والحرية
لا يقدم ديل تورو المخلوق بوصفه “وحشًا”، بل باعتباره رمزا للمقموعين في المجتمع. فهو يمثل المختلف، الغريب، الذي يخشى منه البشر لا لشيء سوى لجهلهم به. ومع تقدّم السرد، يصبح هذا الكائن عنوانًا للحرية والكرامة، ودليلًا على أن الإنسانية ليست حكرًا على البشر وحدهم. هكذا يضع الفيلم المشاهد أمام سؤال وجودي: من يمنح الآخر معنى الإنسانية؟

في معنى المقاومة والحب والعدل
يحمل الفيلم لحظات مليئة بالتوتر، خصوصًا في مسار الهروب الأخير، حيث تتحوّل الحكاية إلى مواجهة بين الحب والنظام. ومن خلال هذا الصراع، يبرز الفيلم مفهوم المقاومة لا كعنف، بل كحماية للحق في الوجود. مقاومة القمع، مقاومة الصمت، ومقاومة فقدان الذات. وفي خلفية الأحداث، يبقى السؤال الفلسفي حاضرًا: هل يمكن للحب أن يكون فعل تحرر؟

خاتمة شاعرية تترك أثراً لا يُنسى
ينتهي «شكل الماء» بمشهد يختلط فيه الواقع بالأسطورة، حيث يتحول البحر إلى ملاذ ووعد. ومع آخر كلمات إليسا التي توحي بأن الحب قادر على إنقاذ الأرواح، يترك الفيلم أثرًا عميقًا، ليؤكد أن السينما ليست مجرد ترفيه، بل مساحة للتأمل في جوهر الإنسان ـ إنسانٌ قادر على رؤية الجمال حتى في أكثر الكائنات غرابة.




الجمعة 5 دجنبر 2025
في نفس الركن