بقلم: محمد ياسر مولين
أما في المغرب، فإن التباين صارخ، ليس فقط من منظور قانوني، بل من منظور ثقافي أيضًا… التسجيل الذي كشفه المهداوي كان يمكن أن يفتح نقاشًا مهمًا حول الوضع الداخلي لمؤسسة يفترض أن تنظم مهنة الإعلام… محتواه كشف مناخًا من التواطؤ، والسلطة المتعجرفة، والانحرافات المؤسسية… لكن الرد كان معاكسًا، فبدلًا من البحث في أسباب الانهيار الأخلاقي، تحوّل النقاش إلى "خرق السرية"، وجُعل كشف الخلل نفسه فعلاً مستنكرًا… كما هو شائع في الأنظمة السياسية التي تهتم بالسيطرة على السرد بدل دراسة الواقع، لم يكن التركيز على الإصلاح، بل على محاسبة المرسل.
هذا الانعكاس في التعامل مع الحقيقة ليس مصادفة… إنه جزء من رؤية سائدة في بعض دوائر السلطة، حيث يُقدّر الحفاظ على الصورة العامة أكثر من الشفافية، وتُقيد الصحافة لتكون امتدادًا للاتصال المؤسسي فقط… بينما يُفترض أن تقبل الديمقراطية اختبار الفضيحة كآلية للرقابة الذاتية، تحاول بعض الأطراف في هذه الحالة تقليص الفضيحة إلى تهديد يجب احتواؤه… وهكذا تُختزل الصحافة إلى وظيفة "تجميلية"، مهمتها تغطية المشاكل بدل كشفها.
انتهت ولاية المجلس الوطني للصحافة في توقيت حساس… فقد كشفت الانسدادات الداخلية، الصراعات حول الامتيازات، وتدخل الوزارة المباشر في ما كان يجب أن يبقى مجالًا للرقابة الذاتية عن هشاشة بنيوية في المؤسسة، واهتمامها أكثر بوسطائها منه بمهمتها الأساسية… والتسجيلات المصورة، إذا ثبتت صحتها، تكشف عن انحراف أعمق، حيث ينظر بعض "وجهاء المهنة" لأنفسهم على أنهم فوق المساءلة، كأن مواقعهم تمنحهم مكانة عليا ضمن هرم إداري غير رسمي.
هذه اللحظة الحرجة لا يمكن اختزالها في صراع نقابي أو مواجهة عشائرية… بل تكشف عن بنية أعمق: صراع بين صحافة تطمح للسلطة الأخلاقية المستقلة، وجهاز سياسي-بيروقراطي يسعى لتقييدها ضمن الولاء الوظيفي… والخيار لم يعد مهنيًا فقط، بل وجوديًا… إما أن تستعيد الصحافة دورها الرقابي واستقلالها الأخلاقي وقدرتها على النقد البنّاء، أو أن تتحول إلى مجرد أداة إدارية لإدارة التوافق.
كل أزمة تحمل مخاطرة وفرصة… المخاطرة تكمن في الاستسلام، والسماح بتطبيع التنازلات الصغيرة، والتخلي عن المعايير الأخلاقية الجوهرية للمهنة… أما الفرصة، فهي في إعادة بناء صحافة لا تخجل من كونها سلطة مضادة، وتعزيز قيمة النقاش العام، وجعل الشفافية مصدر قوة بدل أن تكون تهديدًا.
السؤال اليوم لا يتعلق بهوية "المبلغ"، بل بنوع المجتمع الذي نريد أن نبنيه… مجتمع تُزعج فيه الحقيقة لكنها تنير، أم مجتمع يطمئن فيه المظهر لكنه يعمي الرؤية… بين الخيارين، لا يوجد حل وسط… والسلام عليكم ورحمة الله
الرئيسية















