كتاب الرأي

جرثومة المعدة


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" رواه الترمذي.



بهذه الكلمات الجامعة، وضع لنا نبي الرحمة دستورا للصحة الجسدية والنفسية، ووصفة ذهبية لحياة متوازنة، حيث يكون الطعام وقودا يمنح الجسد طاقته لينطلق في مناكب الحياة، لا قيدا يثقله ويطفئ نشاطه. قاعدة "الأثلاث" هي ببساطة فن إدارة النعمة، لنأخذ حاجتنا من الطعام والشراب، ونترك المساحة الأهم للراحة والقدرة على العمل.

لكن، إذا كان هذا هو الأصل الفطري السليم، فكيف وصلنا إلى واقع نعيش فيه لنأكل، لا نأكل لنعيش؟

 
 لقد انحرف المسار حين تحول الطعام في حياتنا من مصدر للطاقة إلى وسيلة للترفيه والتباهي في عالم مجنون.  وأصبحنا نبحث في الوجبة الدسمة عن الوصول لمرحلة ما بعد الشبع عندها يتبلد الجهاز العصبي ويمرض أخوه الهضمي، فأصبح الطعام فنا والتبذير نمط حياة وتصوير الأطباق شغف.

 
إخراج الأكل عن وظيفته الأساسية استغلته ببراعة آلة التسويق الحديثة. فقد أدركت الشركات الكبرى أن الطريق لجيوبنا يمر عبر شهواتنا، فعملت على ربط منتجاتها بالسعادة والنجاح والراحة. لم تعد الإعلانات تبيعنا طعاما، بل تبيعنا وهما جميلا، فالوجبة السريعة هي جائزة مفرحة، والمشروب الغازي هو رفيق اللحظات المميزة. وقد كان الأطفال هم الهدف الضعيف في هذه المعادلة، حيث تمت برمجة أذواقهم منذ الصغر ليعتادوا على السكر والدهون، فينشؤوا مستهلكين أوفياء لنمط حياة غير صحي.

 
وللأسف، لم يتوقف هذا التأثير عند أبواب بيوتنا، بل تسلل إليها ليغير أقدس عاداتنا. فمع تسارع وتيرة الحياة، تراجعت التربية الغذائية داخل الأسرة، وأصبحت الوجبات السريعة وأكل الشوارع حلا سريعا ومقبولا للآباء المنشغلين. وبهذا، وبدون وعي منا، أصبحنا نورث أبناءنا عادات مدمرة، ونساهم في بناء جيل يعاني من أمراض كان من الممكن تجنبها ببساطة، لو أننا تذكرنا أن مسؤوليتنا الأولى هي حماية صحة من نعولهم.

 
ونتيجة لذلك، كانت الفاتورة الصحية باهظة ومؤلمة. فما نراه اليوم من انتشار مرعب للسمنة بين الأطفال، وارتفاع نسب الإصابة بالسكري وأمراض القلب، ومشاكل الجهاز الهضمي المزمنة كجرثومة المعدة، ليس إلا الحصاد المر لسنوات من الإهمال والابتعاد عن الاعتدال. لقد تحولت أمراض التخمة من حالات فردية إلى وباء يهدد مجتمعات بأكملها، ويستنزف مواردها الصحية والاقتصادية.

 
إذن، ما المخرج؟ الحل يكمن في العودة إلى نقطة البداية، إلى تلك الحكمة النبوية الخالدة. الحل ليس في حمية معقدة، بل في استعادة الوعي المفقود. أن ندرك أن أجسادنا أمانة، وأن الطعام نعمة للشكر لا للإسراف. أن نعلم أنفسنا وأبناءنا أن القوة الحقيقية تكمن في ضبط النفس والاعتدال.  نحتاج حقا إلى مقاومة عالم يريدنا أن نعيش فقط لنستهلك، هذا العالم يسعى بكل أدواته الشيطانية إلى إفقادنا صحتنا وروحنا وإنسانيتنا.
 

الصحة، التغذية المتوازنة، السمنة، الاعتدال في الطعام، التربية الغذائية





الثلاثاء 21 أكتوبر 2025

              

تعليمات خاصة بركن «الرأي الحر / ضيوف المنبر / نبض القلم / بلاغات صحفية »
 
الغاية
هذا الركن مفتوح أمام المتصفحين وضيوف الجريدة للتعبير عن آرائهم في المواضيع التي يختارونها، شرط أن تظل الكتابات منسجمة مع الخط التحريري وميثاق النشر الخاص بـ L’ODJ.

المتابعة والتحرير
جميع المواد تمر عبر فريق التحرير في موقع lodj.ma، الذي يتكفل بمتابعة المقالات وضمان انسجامها مع الميثاق قبل نشرها.

المسؤولية
صاحب المقال هو المسؤول الوحيد عن مضمون ما يكتبه. هيئة التحرير لا تتحمل أي تبعات قانونية أو معنوية مرتبطة بما ينشر في هذا الركن.

الممنوعات
لن يتم نشر أي محتوى يتضمن سبّاً أو قدحاً أو تهديداً أو ألفاظاً خادشة للحياء، أو ما يمكن أن يشكل خرقاً للقوانين المعمول بها.
كما يُرفض أي خطاب يحمل تمييزاً عنصرياً أو تحقيراً على أساس الجنس أو الدين أو الأصل أو الميول.

الأمانة الفكرية
السرقات الأدبية أو النقل دون إشارة للمصدر مرفوضة بشكل قاطع، وأي نص يتبين أنه منسوخ سيتم استبعاده.


















Buy cheap website traffic