أسرتنا

تشجيع الأطفال على الاستقلالية: بين الحث المفرط والاعتدال الضروري


باتت الاستقلالية لدى الأطفال، رمزًا للنمو والتمكين الشخصي، من القيم التربوية التي يوليها المجتمع اهتمامًا بالغًا، سواء في المدارس أو داخل الأسرة. فكل والد يتمنى أن يكون طفله قادرًا على اتخاذ قراراته بنفسه، وتنظيم مهامه اليومية، والتصرف باستقلالية، لكن المشكلة تكمن في الإفراط أحيانًا في الحث على هذه الاستقلالية.



ويشير الباحث الاجتماعي آلان إهرنبرغ إلى أن مفهوم الاستقلالية بدأ يكتسب أهمية اجتماعية منذ الستينيات والسبعينيات، قبل أن يتحول في العقود الأخيرة إلى معيار تربوي شبه إلزامي. هذا التحول قد يسبب توترًا نفسيًا للأطفال، إذ يتطلب منهم تحكمًا عاطفيًا وانضباطًا أكبر مما كان متوقعًا في الماضي.

وقد أظهرت الأبحاث أن الإفراط في الضغط على الطفل ليصبح مستقلًا قد يؤدي إلى نتائج عكسية. فعبارات مثل: «لماذا ما زلت بحاجة لمساعدتي؟» أو «أنت لا تستطيع فعل ذلك!» يمكن أن تهدم الثقة بالنفس لدى الطفل وتخلق إحباطًا دائمًا. وتؤكد الطبيبة النفسية جيسيكا سافي-بيديبوس أن الحل يكمن في منح الطفل استقلالية تدريجية، من خلال خطوات صغيرة وواضحة، تشبه «سقالة الدعم» التي تساعده على التعلم دون إجباره على القفز مباشرة إلى المسؤولية الكاملة.

من الأمثلة العملية، تقسيم مهمة ترتيب الغرفة إلى مراحل: البدء بترتيب الكتب، ثم الألعاب في الأسبوع التالي، مما يسهل على الطفل التحكم في الأمور دون شعور بالإرهاق. ويشمل هذا النهج جميع مجالات التعلم، من المشي إلى أداء المهام اليومية، بحيث تصبح الاستقلالية تجربة بناءة، وليست مصدر ضغط.

كما تؤكد الخبراء على أن لكل طفل وتيرة خاصة في اكتساب الاستقلالية، تتأثر بقدراته المعرفية واللغوية والعاطفية. بعض الأطفال يتعلمون القيام بمهام معينة في سن مبكرة، بينما يحتاج آخرون لمزيد من الدعم والتوجيه، وهذا لا يجب أن يكون سببًا للشعور بالذنب أو المقارنة.

في مرحلة المراهقة، تتزايد الاستقلالية تدريجيًا، لكنها لا تعني انعدام الحاجة للوالدين. على سبيل المثال، الطفل الذي يعود بمفرده من نشاط رياضي ما زال يحتاج إلى المساعدة في تجهيز حقيبته المدرسية، وهذه العلاقة المتوازنة بين الاعتماد والاستقلال هي الأهم.

وينبه المختصون إلى أن المبالغة في تقديس الاستقلالية قد تؤدي إلى شعور الطفل بأنه يجب أن يكون قادرًا على كل شيء بمفرده، ما يخلق صراعًا مع الواقع عند مواجهته تحديات الحياة اليومية والمراهقة. لذلك، يوصي الأخصائي النفسي أنطوان بييري الأهل بالاعتدال: منح الاستقلالية "لا كثير ولا قليل"، بما يراعي قدرات الطفل وحاجاته الفعلية، بعيدًا عن الضغوط الاجتماعية أو القوالب الجاهزة.

باختصار، الاستقلالية فضيلة يسعى الأهل لترسيخها في أطفالهم، لكنها تحتاج إلى صبر وتدرج، ودعم مستمر، مع احترام طبيعة كل طفل. الهدف ليس جعل الطفل وحيدًا في مواجهة الحياة، بل تزويده بالأدوات ليكون قادرًا على الاعتماد على نفسه متى اقتضت الحاجة، مع الحفاظ على شعوره بالأمان والدعم العاطفي من الأسرة.

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاثنين 24 نونبر 2025
في نفس الركن