صحتنا

بين المسؤوليات والتطلعات الجديدة: كيف يواجه المغاربة في سن الأربعين أزمة الهوية والبحث عن الذات؟


يتجاوز الكثير من المغاربة عتبة الأربعين وهم مثقلون بالأسئلة المؤجلة، والرغبة المكتومة في التغيير. في هذه المرحلة العمرية، لا يتعلق الأمر بأزمة منتصف العمر كما توصف عادة، بل بوعي داخلي ينضج على مهل، ويدفع صاحبه إلى مراجعة المسار، وإعادة التفكير في معنى النجاح والسعادة والاختيارات المصيرية. فحين يهدأ صخب الطموحات الأولى، وتخفّ ضوضاء الحياة اليومية، يظهر فراغ من نوع آخر، فراغ المعنى.



يطرح الرجال والنساء في المغرب اليوم أسئلة جديدة على ذواتهم: هل ما أعيشه هو فعلاً ما أريده؟ هل الاستقرار المهني والاجتماعي يعوّض غياب الشغف؟ وهل ما تبقى من العمر يسمح ببداية جديدة؟ هذه التساؤلات، وإن بدت وجودية، فهي تعكس تحوّلاً اجتماعياً صامتاً، تُعيد فيه فئة من الأربعينيين بناء علاقتها بالحياة، وتُعلن—ولو همساً—رفضها للعيش وفق مسارات لم تخترها

بلوغ الأربعين في السياق المغربي يرتبط غالباً بذروة المسؤوليات: أطفال في عمر المراهقة، التزامات مهنية ثقيلة، ضغوط مالية متزايدة، وأحياناً رعاية الوالدين. بالنسبة للنساء، تتعقّد الصورة أكثر، إذ يُتوقع منهن مواصلة الأدوار التقليدية داخل البيت، حتى في ظل حياة مهنية نشيطة. ورغم هذا التراكم، تنبعث أسئلة وجودية يصعب تجاهلها: هل هذه فعلاً الحياة التي أريدها؟ هل يمكن أن أبدأ من جديد؟ هل ما أعيشه يمثلني؟
 

هذه التساؤلات ليست علامة ضعف، بل مؤشر على نضج داخلي. لذلك لم يعد غريباً أن نسمع عن أشخاص في الأربعينيات غيّروا مهنتهم، أو أطلقوا مشاريعهم الخاصة، أو عادوا لمقاعد التكوين. في ظل تطورات سوق العمل، وبروز قطاعات جديدة مثل الرقمنة، الزراعة العضوية، أو السياحة البيئية، تلوح فرص للتجديد المهني، وإن ظلت محفوفة بالمخاطرة. سعاد، 43 سنة، اختارت مغادرة قطاع الأبناك لتصبح مدربة في الوعي المالي. تقول إنها فقدت نصف راتبها، لكنها كسبت راحة البال.
 

في الموازاة مع ذلك، بدأ مفهوم التنمية الذاتية يجد موطئ قدم في الثقافة المغربية. لم يعد حكراً على النخب أو المغتربين، بل أصبح وسيلة للعديد من الأربعينيين لفهم الذات، وتضميد الجراح القديمة، والبدء من جديد. كتب، بودكاستات، مدربون على الإنترنت، جلسات علاج نفسي… كلها أدوات يلجأ إليها المغاربة لإعادة بناء علاقتهم بأنفسهم. رشيد، موظف في إدارة عمومية بمكناس، بدأ مؤخرًا العلاج النفسي بعد عقدين من العمل الروتيني، ويقول إن ما اكتشفه عن ذاته غيّر نظرته للحياة.
 

ترافق هذه الموجة رغبة واضحة في الهروب من صخب المدن. منذ الجائحة، ازداد عدد من قرروا العودة إلى القرى، أو شراء قطعة أرض في الجبال، أو إطلاق مشاريع بسيطة تمنحهم القرب من الطبيعة والإيقاع البطيء للحياة. لم تعد القيمة في المال، بل في راحة البال. في إموزار أو شفشاون، نلتقي برجال ونساء في منتصف العمر أسّسوا ضيعات فلاحية أو نزلًا عائليًا، بحثًا عن حياة أكثر انسجامًا.
 

لكن التغيير ليس سهلاً في مجتمع محافظ. قرار ترك وظيفة "محترمة" أو تأجيل الطموحات الاجتماعية يُقابل أحياناً بالرفض أو السخرية. "تخلي المنصب وانت فهاد السن؟"، "وشنو غادي تدير دابا؟"، "وفين غادي بولادك؟". هذه الأسئلة ليست مجرّد آراء، بل ضغوط نفسية وثقافية تُقيد من يحلمون بالتجديد. ومع ذلك، بدأ هذا التصور يتصدع، خاصة مع دعم الأبناء لآبائهم، وصعود وعي جديد يُشجع الفرد على البحث عن المعنى بدل الامتثال.
 

لمن يفكرون بجدية في التغيير بعد الأربعين، هناك خطوات ممكنة وواقعية: أولاً، التقييم الذاتي الصادق لما تريده فعلاً. ثم البحث عن مهاراتك القابلة للنقل، والانخراط في التكوين المستمر. هناك مؤسسات حكومية مثل "أنابيك" تقدم فرصاً للتدريب والدعم. المهم ألا تمضي في الطريق وحدك. التشبيك مع من خاضوا تجارب مماثلة، والانضمام لمجموعات دعم أو مبادرات محلية، قد يمنحك الثقة لتبدأ. والأهم: الصبر. التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها.
 

ما نعيشه اليوم هو تحول عميق في نظرة المغاربة للحياة في منتصف العمر. لم يعد الأربعون رمزا للركود، بل فرصة لإعادة كتابة الذات. ليس من الضروري أن يغيّر كل شخص وظيفته أو يرحل عن المدينة، لكن الضروري هو أن يشعر أنه لا يعيش على الهامش، أو أنه ضحية قرارات قديمة. في بلد مثل المغرب، حيث تتغير القيم والنماذج الاجتماعية بثبات، يبدو جيل الأربعينيين اليوم أكثر وعياً برغباته، وأجرأ على خوض معركة "البدء من جديد"


تغيير الحياة، سن الأربعين، التنمية الذاتية، التوازن النفسي، المغرب، التحول المهني، المسؤوليات العائلية


عائشة بوسكين صحافية خريجة المعهد العالي للإعلام… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الخميس 26 يونيو/جوان 2025
في نفس الركن