حياتنا

المدن المغربية الكبرى والعطش القادم : قنبلة مائية موقوتة؟


في زمن يتزايد فيه الوعي بأزمة المياه على المستوى العالمي، لم تعد المدن المغربية الكبرى بمنأى عن هذا التحدي الوجودي. فالماء، الذي لطالما اعتُبر خدمة عمومية مضمونة، أصبح اليوم عنصراً هشّاً في معادلة استقرار الحواضر المغربية. ومع توسّع الحواضر وتنامي حاجياتها العمرانية والصناعية والسياحية، بدأت ملامح أزمة مائية تلوح في الأفق، تهدد النسيج الحضري والاجتماعي على السواء.

الدار البيضاء، مراكش، أكادير... هذه المدن ليست فقط محركات اقتصادية، بل أيضاً فضاءات يُكثّف فيها الضغط على الموارد المائية إلى حدّ غير مسبوق. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: كيف يمكن لهذه المدن أن تصمد في وجه العطش الزاحف، وأن تتجاوز نموذجاً حضرياً لا يُراعي نُدرة الماء في زمن التغير المناخي؟



 

مدن تتوسع بسرعة… والماء يتراجع بصمت
 

شهدت المدن المغربية خلال العقود الأخيرة تحولات ديمغرافية وجغرافية عميقة. فقد تضاعف عدد السكان الحضريين ثلاث مرات منذ الثمانينات، ووصلت نسبة التمدن إلى أكثر من 65٪ من مجموع السكان. غير أن هذا النمو لم يُواكبه، في الغالب، تطور متوازن في البنيات التحتية، ولا في تدبير الموارد الحيوية وعلى رأسها الماء.
 

في الدار البيضاء، القلب الصناعي والمالي للمملكة، يتجاوز الاستهلاك اليومي من الماء الصالح للشرب 600 ألف متر مكعب، ما يُعادل تعبئة أكثر من 200 مسبح أولمبي يومياً. أما مراكش، فإن الطلب يرتفع بشدة خلال المواسم السياحية، ويتضاعف في المناسبات الكبرى كتنظيم المؤتمرات واللقاءات الدولية.
 

وفي المقابل، تعاني موارد الماء السطحي من تراجع حاد بسبب الجفاف المتكرر، بينما تُستنزف المياه الجوفية بشكل مقلق. الأحواض المائية التي كانت تؤمّن جزءاً كبيراً من حاجيات المدن أصبحت مهددة، وسدود مثل سيدي محمد بن عبد الله (الذي يزود البيضاء والرباط) اقترب من أدنى مستوياته التاريخية.
 
السياحة تحت المجهر: رفاهية تُهدد الحق في الماء  

يلعب القطاع السياحي دوراً محورياً في الاقتصاد الوطني، لكنه في الوقت ذاته يُعد من أكثر القطاعات استهلاكاً للماء، لا سيما في المدن ذات الجذب السياحي الكبير مثل مراكش وأكادير. تشير التقديرات إلى أن السائح الواحد يستهلك ما بين 3 إلى 5 أضعاف ما يستهلكه المواطن العادي، نظراً لاستخدام الفنادق للمسابح، النوافير، المساحات الخضراء، والغسيل المتكرر.
 

في غياب ضوابط واضحة، تتحول السياحة إلى عامل تفاقم لأزمة التزود بالماء، خاصة حينما لا تُفرَض تسعيرة مائية خاصة بهذا القطاع، ولا يُطبَّق مبدأ "المُلوِّث أو المستهلك يدفع". المفارقة الصادمة أن سكان الأحياء الشعبية يجدون أنفسهم مضطرين إلى التزود عبر الصهاريج أو التحمّل تحت نظام التقنين، في حين تواصل بعض المنشآت الفندقية تقديم رفاهية مائية غير مستدامة.
 

هذا الوضع يُهدد التماسك الاجتماعي ويخلق شعوراً متزايداً باللاعدالة بين المواطنين، ويضع صُنّاع القرار أمام ضرورة إرساء موازنة عادلة بين جذب الاستثمار السياحي وضمان الحق الدستوري في الماء.
 
نقل المياه بين الأحواض: حل تقني أم إشكال سياسي؟  

أمام تزايد الضغط على الموارد المحلية، لجأت الدولة إلى حلول استعجالية كبرى، أبرزها مشاريع نقل المياه بين الأحواض. من بين هذه المشاريع، نقل الماء من سد المسيرة نحو أبي رقراق لتأمين تزويد البيضاء والرباط.
 

لكن، ورغم النجاعة التقنية الظاهرة لهذه المشاريع، تثير هذه العمليات تساؤلات عميقة حول جدواها السياسية والبيئية والاجتماعية. فهل يُعقل أن تبنى منظومة حضرية تعتمد على سحب الماء من أحواض أخرى، هي نفسها تعاني من نُدرة؟
 

إن اعتماد المدن الكبرى على أحواض "مانحة" في الأقاليم المجاورة يُنذر باحتمال نشوء صراعات ترابية حول توزيع الماء، خاصة في حال تفاقم الجفاف. كما أن هذه السياسة، إن لم تُرافقها إجراءات لإعادة التوازن المائي داخل كل حوض، قد تكرّس مركزية غير عادلة وتُعمق الفوارق المجالية

 
نحو مدينة مغربية "واعية مائياً"  

التحوّل الحضري في المغرب لا يجب أن يكون فقط في البنايات والبنى التحتية، بل في الوعي المائي أيضاً. المدينة الذكية في القرن 21 ليست فقط تلك التي تملك شبكة طرق حديثة أو مشاريع عقارية ضخمة، بل تلك التي تدير مواردها المائية بكفاءة وعدالة.
 

هذا يمرّ عبر تقليل ما يتم فقده من شبكات التوزيع، الذي يصل أحياناً إلى 30٪، واستغلال المياه العادمة المعالجة في الري والصناعة، وتطوير خزانات لتجميع مياه الأمطار، وتعميم تجهيزات الاقتصاد في الماء داخل المرافق العامة والمنازل.
 

كما يجب إعادة النظر في التسعيرة المائية بطريقة تصاعدية تضمن حماية الفئات الهشة، وتشجع في الوقت نفسه على ترشيد الاستهلاك لدى الفئات المستهلكة بكثافة.
 

أكثر من ذلك، يتعين على الدولة والفاعلين المحليين الاستثمار في حملات توعية تستهدف المدارس، وسائل الإعلام، والجمعيات، لجعل ثقافة "ترشيد الماء" سلوكاً يومياً وليس مجرد شعار ظرفي.


المدن المغربية، أزمة الماء، التحلية، مراكش، الدار البيضاء، أكادير، السياحة والماء، نقل المياه


عائشة بوسكين صحافية خريجة المعهد العالي للإعلام… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الأربعاء 25 يونيو/جوان 2025
في نفس الركن