الهوة المائية بين جهات المملكة لم تعد مجرد تعبير عن تفاوت في البنية التحتية، بل تحوّلت إلى مظهر واضح من مظاهر التمييز الترابي، حيث أصبح الموقع الجغرافي يحدد حظ الفرد أو الجماعة من الماء، بصرف النظر عن حاجته أو حقه. من خلال هذا التباين، تتبلور أزمة صامتة تهدد بتقويض التماسك الاجتماعي، وتطرح علامات استفهام عميقة حول جدوى النموذج التنموي الحالي.
في مناطق الأطلس والريف ودرعة، لا يزال السكان يلجؤون إلى السواقي أو يعتمدون على الصهاريج المتنقلة، في حين تنعم مدن كبرى مثل الدار البيضاء وأكادير بمشاريع تحلية وتوسعة في شبكات التوزيع. المفارقة أن بعض الأقاليم الزراعية الكبرى التي تُروى يوميًا بملايين الأمتار المكعبة من المياه، تحيط بها دواوير تعيش عطشًا مستمرًا.
هذا التفاوت المائي لا يهدد فقط الحياة اليومية، بل يُعيد رسم الخريطة السكانية للمغرب. الهجرة القروية تتسارع نتيجة ندرة الماء، لتُفرغ المناطق الداخلية من شبابها، وتُعمّق الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية. وفي ظل غياب رؤية عادلة، يتحول الماء إلى امتياز طبقي أو جهوي، بدلاً من أن يُعامل كحق طبيعي ودستوري.
ولتصحيح هذا المسار، لا بد من التفكير في العدالة المائية كجزء لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية. هذا يقتضي تجاوز الحلول التقنية الظرفية، والانتقال إلى مقاربة شاملة تضع الإنسان في قلب السياسات المائية. يجب ضمان الحق في الماء لكافة المواطنين، من خلال استثمار متوازن، وتوزيع عادل للموارد، ومشاركة حقيقية للسكان في اتخاذ القرار.
بل أكثر من ذلك، المغرب في حاجة إلى "عقد مائي وطني" جديد، يُؤسس لمنظور تضامني بين الجهات، ويفرض مسؤولية متقاسمة بين الدولة والجماعات والمواطنين. عقد يعترف بأن العدالة المائية هي شرط للاستقرار السياسي والإنصاف الاجتماعي، وليست مجرد مؤشر للتنمية المستدامة.