ويبرز اختيار الداخلة كرسالة قوية، إذ لم يعد يُنظر إليها كمدينة هامشية، بل تحولت إلى قلب الرؤية الملكية بمشاريع كبرى تشمل ميناءً أطلسياً ضخماً قيد الإنجاز، ومبادرات طاقية مبتكرة، ومؤهلات سياحية متنامية، واستراتيجية إفريقية عابرة للأطلسي. ومن خلال هذا التموقع الجديد، يوجه المغرب إشارة واضحة بأن أقاليمه الجنوبية لم تعد مجرد عنوان سياسي لوحدة التراب الوطني، بل أضحت مراكز اقتصادية ذات إشعاع دولي.
ومن الطبيعي أن تستفز هذه الدينامية الجزائر، إذ ترى في حضور شركاء أوروبيين من الصف الأول بالداخلة تقويضاً مباشراً لروايتها حول "عزلة الصحراء". وتزداد حدة الرسالة مع مستوى الشخصيات المشاركة، التي لا تمثل رموزاً شكلية بقدر ما تجسد صناع قرار قادرين على إطلاق مشاريع استراتيجية عابرة للقطاعات.
ولتعزيز هذا الزخم، يحشد المغرب وفداً وازناً يضم مهدي التازي، النائب العام لرئيس الاتحاد العام لمقاولات المغرب، ومحمد الكتاني، الرئيس المشترك لنادي رؤساء المقاولات المغربية–الفرنسية، وكريم زيدان وزير الاستثمار، إضافة إلى علي خليل والي جهة الداخلة–وادي الذهب، وينجا الخطاط رئيس المجلس الجهوي، وهو ما يمنح المنتدى بعداً مؤسساتياً وإقليمياً قوياً.
وبالموازاة مع ذلك، يشارك الجانب الفرنسي بوفد رفيع بقيادة فابريس لو ساشي، نائب رئيس MEDEF، مرفوقاً بروس ماك إينيس الرئيس المشترك لنادي المغرب–فرنسا، وكريستوف لوكورتير سفير فرنسا في الرباط، ما يعكس رغبة باريس في استعادة حيويتها الاقتصادية داخل السوق المغربية والإفريقية، خصوصاً بعد سنوات من فتور العلاقات.
ويتعزز هذا الحضور الفرنسي بمشاركة رؤساء كبريات المجموعات مثل “إنجي” و”فيوليا” و”أكور” و”جيوذيس” إلى جانب وكالة التنمية الفرنسية، ليؤكدوا أن المنتدى لن يبقى حبيس النقاشات النظرية، بل سيشكل منصة لإطلاق تعاون صناعي متجدد يشمل مجالات الطاقة واللوجستيك والسياحة والتمويل.
ولإعطاء الحدث عمقاً عملياً، يركز المنتدى على أربع ورشات كبرى: الأولى حول المبادرة الأطلسية الملكية كقاعدة لجيو–اقتصاد جديد، والثانية حول الأمن الغذائي في مواجهة التغيرات المناخية والأزمات اللوجستية، والثالثة حول الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر باعتبارهما قلب الانتقال الطاقي، أما الرابعة فتتمحور حول السياحة والخدمات ورأس المال البشري لتحويل الداخلة إلى وجهة عالمية.
وبهذا الشكل، يجسد المنتدى نموذجاً للدبلوماسية الاقتصادية التي يعتمدها المغرب، عبر إشراك فرنسا في مشاريعه الكبرى، مع مواصلة الانفتاح على شركاء آخرين كإسبانيا والولايات المتحدة والصين ودول الخليج. وفي المقابل، تستغل باريس المناسبة لإعادة التوازن إلى علاقتها مع الرباط، بما يمكنها من استعادة موقعها الطبيعي في خريطة الشراكات الاستراتيجية.
ومن هنا، يختبر المنتدى جدية الانطلاقة الجديدة للعلاقات المغربية–الفرنسية، فإذا تحولت التصريحات إلى عقود واستثمارات ملموسة، ستغدو الداخلة رمزاً لشراكة عملية مربحة للطرفين، أما إذا ظل الأمر عند حدود الوعود، فسيتبدد الزخم وتضيع فرصة استراتيجية نادرة.
وفي كل الأحوال، تتلقى الجزائر الضربة الأقوى، إذ كل صورة لمسؤول فرنسي في الداخلة، وكل إعلان عن مشروع جديد، يُعتبر صفعة مباشرة لدعايتها، ويجعلها أكثر عزلة في محيطها الإقليمي، مقابل مغرب يواصل فرض حضوره الاقتصادي والدبلوماسي بثبات.
وينتظر سكان الداخلة والمستثمرون المغاربة أن تُترجم هذه الوعود إلى إنجازات فعلية، إذ لن يُقاس نجاح المنتدى بجودة الخطب أو حجم الوفود، بل بمدى تحولها إلى مصانع وفنادق ومناطق لوجستية ومحطات للطاقة الشمسية. فإذا تحقق ذلك، سيدخل المنتدى تاريخ العلاقات الثنائية، أما إذا بقي واجهة إعلامية، فستضيع فرصة استراتيجية كبيرة.
وفي النهاية، يؤكد منتدى الداخلة الاقتصادي أنه أكثر من مجرد لقاء لرجال الأعمال؛ إنه اختبار لمصداقية استئناف العلاقات المغربية–الفرنسية، ورمز لإدماج الأقاليم الجنوبية في سلاسل القيمة العالمية، ورسالة جيوسياسية قوية موجهة إلى المنطقة. ومن خلاله، يعزز المغرب استراتيجيته الأطلسية، فيما تستعيد فرنسا موقعها الاقتصادي، وتبقى الجزائر عالقة في موقع المتفرج المحبط أمام مغرب يواصل جذب الاستثمارات والمضي بثبات نحو المستقبل