كتاب الرأي

الجريمة الإلكترونية.. الحرب الخفية في زمننا


قبل بضع سنوات، كانت تهديدات الفضاء الرقمي تبدو بعيدة جدًا، مقتصرة على أفلام الكوارث والخيال الهوليودي. اليوم، أصبح هذا الخطر ملموسًا وحاضرًا في حياتنا اليومية: الهجمات الإلكترونية صارت جزءًا من روتيننا اليومي.



بقلم محمد آيت بلحسن

هذه الهجمات تعرقل حياة الناس، تشل الشركات، تضعف المؤسسات، وتعرض بياناتنا الشخصية الأكثر حساسية للخطر. أدوات هذه الحرب الرقمية ليست دبابات أو صواريخ، بل أسطر برمجية، ثغرات في أنظمة الحواسيب، وتلاعب نفسي شديد الفعالية.
 

في قلب هذه الحرب الرقمية، ما يهتز ليس التكنولوجيا فقط، بل الإنسان نفسه. ضحايا الهجمات الإلكترونية ليسوا الشركات الكبرى أو الدول فقط، بل الأفراد أيضًا، الذين يقعون فريسة للجهل أو الثقة المفرطة. نقرة واحدة على رابط، أو وعد مغرٍ، وقد تنهار حياتهم. المحتالون يستغلون سذاجة الضحايا، يطمئنونهم ليتمكنوا من استغلالهم، ثم يسلبون مدخراتهم وطمأنينتهم. القلق المتصاعد خلف الشاشة يوضح الحقيقة: العدو غير مرئي، لكن نتائجه حقيقية وملموسة.
 

الشركات ليست بمنأى عن هذا الخطر. هجمات الفدية شلت مؤسسات كاملة، وجعلت القادة أمام خيار صعب: دفع فدية ضخمة لاستعادة البيانات، أم رفض الدفع وخسارة كل شيء؟ هذا الواقع يوضح قسوة الجريمة الإلكترونية، إذ تحرم الضحايا من أي هامش للمناورة وتتركهم عاجزين تمامًا.
 

وراء الفديات، يكمن الكنز الحقيقي للقراصنة: البيانات. على الإنترنت المظلم تنتقل آلاف المعلومات الحساسة: هويات، سجلات طبية، مستندات مالية. كل شيء يُباع ويُشترى ويُستغل. هذا السوق المظلم يغذي اقتصادًا إجراميًا عالميًا يعتمد على ضعف الأبرياء. والأسوأ، أن بعض هذه البيانات تُعرض علنًا كغنائم، محوّلة الضحايا إلى أهداف مهانة ومحرجة.
 

الجريمة الإلكترونية لم تعد تقتصر على الأفراد، بل تستهدف البنية التحتية الحيوية أيضًا. المستشفيات، الهشة أساسًا، تصبح أهدافًا مثالية. كلمة مرور ضعيفة أو برنامج غير محدث قد يؤدي إلى شلل غرفة عمليات، أو تسرب بيانات طبية حساسة. هنا، المخاطر تتجاوز الاقتصاد: حياة البشر مهددة بشكل مباشر.
 

هذه الهجمات لم تعد تصدر من أفراد منعزلين في غرفهم. خلفها شبكات منظمة تشبه الشركات متعددة الجنسيات: فرق متخصصة، أهداف مالية واضحة، تقنيات متطورة. يبدأ البعض بعمليات صغيرة، ثم يرتقون للانضمام إلى منظمات قادرة على توليد ملايين الدولارات. هذه الاحترافية تزيد الفجوة بين قراصنة مبتكرين باستمرار ومؤسسات عاجزة عن مجاراة التطور.
 

تحاول الحكومات الرد : استثمارات ضخمة، تطوير أدوات لمراقبة الإنترنت المظلم، خطط لتأمين البنية التحتية الحيوية. لكن الهاكرز يتحركون أسرع، متجاوزين كل الإجراءات. عند كل حاجز، تظهر ثغرة جديدة. الأمن السيبراني يشبه سباقًا بلا نهاية، حيث يظل المهاجم دائمًا خطوة أمام الدولة.
 

الأمن السيبراني لم يعد مسؤولية الخبراء فقط، بل أصبح واجبًا جماعيًا. على كل شخص تعزيز كلمات المرور، التحقق من مصادر المعلومات، وتجنب الروابط المشبوهة. الأهم من ذلك، بناء ثقافة للأمن الرقمي منذ المدرسة، تمامًا مثل التربية المدنية أو الصحة العامة. حماية حياتنا الرقمية تعني حماية ديمقراطياتنا واقتصادنا وحرياتنا.
 

 شهد عام 2025 نقطة تحول مقلقة في الأمن السيبراني بالمغرب، في أبريل، شنّت مجموعة الهاكرز Jabaroot DZ هجومًا على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وكشفت بيانات حساسة لنحو مليوني مشترك: شهادات الأجور، معلومات شخصية، هويات. هذا الاختراق، الذي انتشر بسرعة على وسائل التواصل، تسبب في صدمة وطنية وكشف هشاشة المؤسسات.
 

بعد عدة أشهر، حدث هجوم جديد من هاكر آخر، مؤكدًا ضعف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. في الوقت نفسه، استهدف الهجوم وزارة العدل، حيث تم الكشف عن بيانات حساسة لآلاف القضاة والموظفين القضائيين. كما شملت الهجمات مؤسسات أخرى مثل الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية والنقابة الوطنية للموثقين، ما يوضح أن الظاهرة منهجية وليست عابرة.
 

رغم إدانات السلطات لهذه الجرائم الرقمية واعتبارها "جدية للغاية"، يرى خبراء أن الرد لا يزال غير كافٍ. هذه الهجمات ليست مجرد إحراج، بل تكشف حدود دولة استثمرت بكثافة في رقمنة الخدمات دون تعزيز الحماية الرقمية بالشكل الكافي.
 

في المغرب، حيث أكثر من 90٪ من السكان متصلون بالإنترنت، لم يعد الأمن السيبراني مجرد جانب تقني يُعهد إلى بعض المهندسين، بل أصبح قضية وطنية، سياسية واستراتيجية. تدريب المواطنين على السلوكيات الصحيحة، مراجعة البنية التحتية بانتظام، إنشاء نظام حوكمة واضح ومموّل، كلها شروط لاستعادة ثقة المغاربة في مؤسساتهم. حماية بياناتنا تعني حماية حقوقنا، اقتصادنا، وسيادتنا


الجريمة الإلكترونية، الأمن السيبراني، الهجمات الإلكترونية، حماية البيانات، المخاطر الرقمية





السبت 20 سبتمبر 2025

              

تعليمات خاصة بركن «الرأي الحر / ضيوف المنبر / نبض القلم / بلاغات صحفية »
 
الغاية
هذا الركن مفتوح أمام المتصفحين وضيوف الجريدة للتعبير عن آرائهم في المواضيع التي يختارونها، شرط أن تظل الكتابات منسجمة مع الخط التحريري وميثاق النشر الخاص بـ L’ODJ.

المتابعة والتحرير
جميع المواد تمر عبر فريق التحرير في موقع lodj.ma، الذي يتكفل بمتابعة المقالات وضمان انسجامها مع الميثاق قبل نشرها.

المسؤولية
صاحب المقال هو المسؤول الوحيد عن مضمون ما يكتبه. هيئة التحرير لا تتحمل أي تبعات قانونية أو معنوية مرتبطة بما ينشر في هذا الركن.

الممنوعات
لن يتم نشر أي محتوى يتضمن سبّاً أو قدحاً أو تهديداً أو ألفاظاً خادشة للحياء، أو ما يمكن أن يشكل خرقاً للقوانين المعمول بها.
كما يُرفض أي خطاب يحمل تمييزاً عنصرياً أو تحقيراً على أساس الجنس أو الدين أو الأصل أو الميول.

الأمانة الفكرية
السرقات الأدبية أو النقل دون إشارة للمصدر مرفوضة بشكل قاطع، وأي نص يتبين أنه منسوخ سيتم استبعاده.


















Buy cheap website traffic