حياتنا

الثورة الصامتة في العدالة المغربية : نهاية الملاحقات التلقائية وظهور العدالة التفاوضية


يستعد النظام القضائي المغربي لتغيير جذري اعتبارًا من 8 ديسمبر، مع دخول القانون الجديد للإجراءات الجنائية حيز التنفيذ، وهو ما يشكل تحولًا كبيرًا في توازن السلطات داخل منظومة العدالة. وأوضحت مذكرة داخلية صادرة عن رئيس النيابة العامة، هشام بلاوي، موجهة للوكالات القضائية، أن مرحلة الملاحقات التلقائية على وشك الانتهاء.



تقوم هذه الإصلاحات على إعادة المنطق القضائي للأولوية على الروتين الآلي، حيث لم تعد البلاغات المجهولة كافية لإطلاق إجراءات قضائية. فقط الشكايات المدعمة بأدلة قوية، تم التحقق منها من قبل الشرطة القضائية، يمكنها الآن تحريك الدعوى العمومية. ويشمل هذا أيضًا القضايا المتعلقة بالمالية العامة، حيث يمكن لبعض الهيئات الرسمية فقط، مثل ديوان المحاسبة، والتفتيشات العامة للوزارات، والهيئات الرقابية والمالية، إحالة القضايا مباشرة على العدالة، بينما يظل القرار النهائي للنيابة العامة في باقي الحالات.
 

يأتي هذا التوجه في ظل جهود وزير العدل عبد اللطيف وهبي، الذي ركز جزءًا من ولايته على مكافحة البلاغات الكيدية والتشهير الاجتماعي، معتمدًا على مبدأ أن افتراض البراءة ليس مجرد صيغة قانونية، بل مبدأ يجب حمايته بصرامة. هذه الخطوة تهدف إلى الحد من استخدام الشكايات كأداة انتقام شخصي أو وسيلة لتدمير السمعة الاجتماعية.
 

لكن هذه الصرامة الجديدة قد تحمل بعض التحديات، إذ يمكن أن تعقد مهمة المبلغين عن الفساد. فالبلاغات المباشرة من المواطنين أصبحت الآن تمر عبر مؤسسات عامة قد تكون غير جاهزة بالكامل أو متأثرة بالبيروقراطية، مثل هيئة النزاهة التي لم تصل بعد إلى كامل قدرتها التشغيلية، مما قد يؤدي إلى إحجام البعض عن الإبلاغ أو ممارسة الرقابة الذاتية.
 

من الجوانب الأساسية للإصلاح أيضًا إعادة صياغة فلسفة العمل القضائي، حيث لم تعد العقوبة الهدف الأوتوماتيكي لكل قضية. فقد أتاح القانون الجديد نظام العدالة التفاوضية، المستوحى من تجارب بعض الدول، مثل الولايات المتحدة، حيث يمكن للنيابة العامة اقتراح اتفاقيات بين الأطراف لقضايا معينة تعتبر صغيرة أو محدودة، مثل السرقة البسيطة، أو خيانة الأمانة، أو العنف الخفيف.
 

إذا تم التوصل إلى اتفاق، لا تذهب القضية إلى المحكمة، وتتوقف الإجراءات القضائية فورًا، ما يقلل من ضغط المحاكم على القضايا البسيطة، ويعزز إمكانية الإصلاح الاجتماعي بدل الاقتصار على العقوبة.
 

هذا النموذج الجديد يعيد تحديد دور القاضي، إذ لم يعد الوجهة الوحيدة للنزاعات الجنائية. بل أصبحت العدالة مسارًا متعدد الخيارات، حيث يحل الحوار، والتفاوض، وأحيانًا المصالحة، محل المواجهة القضائية المباشرة

في المجمل، يتجه المغرب نحو نظام قضائي أقل ميكانيكية وأكثر عقلانية، ولكنه أيضًا أكثر صرامة. عدالة تسعى للحماية دون التسامح المفرط. ويبقى التساؤل: هل ستتمكن المؤسسات والمواطنون والفاعلون في المجال القانوني من التكيف مع هذا النظام الجديد بالنضج والبصيرة اللازمين؟


عائشة بوسكين صحافية خريجة المعهد العالي للإعلام… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاثنين 17 نونبر 2025
في نفس الركن