اقتصاديات

البنك المركزي الأوروبي يدعو الأوروبيين للاحتفاظ بالنقد، ما المغزى وراء هذه الخطوة؟


في مذكرة أثارت الكثير من الجدل، أوصى البنك المركزي الأوروبي للمواطنين بالاحتفاظ في منازلهم بمبلغ كافٍ من النقود لتغطية ثلاثة أيام من النفقات الأساسية. اقتراح مفاجئ، يكاد يكون متناقضًا، في وقت تدفع فيه أوروبا بكل قوتها نحو الاقتصاد الرقمي بالكامل. فهل يجب النظر إلى ذلك كإجراء احترازي بسيط أم كإشارة مقلقة على هشاشة نظامية؟



البنك المركزي الأوروبي نشر دراسة بعنوان يبعث على الاطمئنان – “حافظ على هدوئك واحتفظ بالنقد” – لكنها تحتوي على ما يثير الكثير من القلق. ينصح النص كل مواطن أوروبي بالاحتفاظ بمبلغ نقدي يعادل احتياجاته الأساسية لثلاثة أيام على الأقل. بعض الدول مثل هولندا والنمسا وفنلندا تحدد مبالغ محددة، تتراوح بين 70 و100 يورو لكل شخص.
 

وراء هذه البساطة الظاهرية تكمن خطوة تختلف عن التوجه العالمي، فالمعاملات الرقمية تكتسب مساحة أكبر يومًا بعد يوم، البنوك تغلق بعض صناديقها، والأجيال الشابة تدفع باستخدام هواتفهم الذكية. وفجأة، تذكّر المؤسسة النقدية الأقوى في أوروبا الجميع بأن النقد يظل شبكة أمان مهمة.
 

تستند توصية البنك المركزي الأوروبي اليوم إلى أربع محطات بارزة في الأزمات الأخيرة. أولها جائحة كوفيد-19، ففي عام 2020 ارتفعت الطلبات على الأوراق النقدية بأكثر من 140 مليار يورو، مقارنة بـ55 مليار يورو في سنة عادية. ثانيًا، الحرب في أوكرانيا، حيث ارتفعت كمية النقد المتداول في البلدان المجاورة بنسبة 36٪. ثالثًا، الانقطاع الكبير في إسبانيا في أبريل 2025، فقد اندفع الناس إلى ماكينات الصرف بمجرد عودة الشبكة، دليل على هشاشة الثقة بسرعة. ورابعًا، الأزمة اليونانية، حيث أسهمت عمليات السحب الضخمة خلال التوترات المالية في تجربة حية على الخوف من البنوك. وفي كل مرة، كان رد الفعل نفسه: التوجه بسرعة إلى ماكينة الصراف. فالنقد، رغم كل وعود الرقمنة، يمنح الاطمئنان بفضل ملمسه المادي.
 

يؤكد مؤلفا الدراسة، فرانشيسكا فايلّا وأليخاندرو زامورا بيريز، أن النقد ليس فقط وسيلة دفع، بل له قيمة نفسية. فوجوده في المحفظة أو في درج يعطي شعورًا بالتحكم والأمان. في اللحظات التي تتزعزع فيها الأمور – جائحة، حرب، انقطاع كهربائي – يصبح هذا الورق الملموس نقطة ارتكاز ثابتة.
 

وهذه الأهمية تصبح أكبر لأن الأنظمة الرقمية، مهما كانت متطورة، ليست منيعة ضد الانقطاع. أي عطل في الإنترنت، هجوم إلكتروني، أو انقطاع طويل للكهرباء قد يوقف البطاقات المصرفية والتطبيقات الإلكترونية. النقد، بالمقابل، يعمل دون اتصال بالشبكة.
 

يمكن قراءة توصية البنك المركزي الأوروبي كدعوة للمسؤولية الفردية، لكنها تطرح أيضًا سؤالًا مقلقًا: إذا كانت المؤسسة تصر على الاحتفاظ بالنقد، ألا يعني ذلك أنها تخشى صدمات كبيرة جديدة؟ فإلى جانب الأزمات المالية منذ 2008، تواجه أوروبا أزمات صحية وجيوسياسية وطاقة متكررة. ويبدو أن هذه الدعوة لتخزين النقد تعكس وعيًا عميقًا بهذه الهشاشة.
 

يتحدث بعض المراقبين عن “إشارة تحذير ضمنية”: طريقة أنيقة لإبلاغ المواطنين بأن الاستقرار، الذي يفاخر به كثيرًا، يبقى هشًا.
 

من جهة أخرى، يحذر عدة اقتصاديين من أن تشجيع الأسر على الاحتفاظ بالنقد قد يضعف حركة الأموال. إذا بقيت السيولة طريحة في الأدراج، فهي تغيب عن النظام المصرفي وبالتالي عن تمويل الاقتصاد. وعلى نطاق واسع، قد يخلق ذلك توترات في سوق الائتمان.
 

ولا ننسى المخاطر العملية: السرقة، الفقدان، وعدم المساواة الاجتماعية، لأن بعض العائلات قد تجد صعوبة في الاحتفاظ بمبلغ يكفي ثلاثة أيام من النفقات الأساسية إذا كانت تعاني أصلًا من ضيق الموارد.
 

حتى بالنسبة للمغرب، فإن هذه الرسالة الأوروبية لا يمكن تجاهلها. فقد شهدت بلادنا بدورها أزمات محلية محدودة في البنوك، وإن كانت أقل حدة. وقد ذكّرت الجائحة بأهمية توفر حد أدنى من النقد عند ازدحام الخدمات الرقمية.
 

لكن بالمقابل، المغرب يواصل الدفع نحو الرقمنة، مع انتشار البطاقات المصرفية، التطبيقات المالية والـFintech. والسؤال المطروح: هل يجب علينا، مثل الأوروبيين، الاحتفاظ بمخزون نقدي في المنازل؟ أم أن ذلك قد يعيق التحديث الرقمي الضروري؟
 

الحقيقة قد تكمن في وسط الطريق. فمن المعقول أن يكون لدى كل منزل احتياطي صغير للطوارئ لتجنب المفاجآت، ولكن من الخطأ التخلي عن التحول الرقمي. ويجب على المغرب الاستمرار في بناء منظومة دفع حديثة، شاملة وموثوقة، مع الاعتراف بأن أي تقنية ليست منيعة بالكامل.
 

كما هو الحال غالبًا في الاقتصاد، لا يتعلق الأمر باختيار جانب محدد، بل بتحقيق توازن. الرقمنة توفر سهولة وشفافية؛ والنقد يمنح الأمان والحماية عند حدوث أي انقطاع.
 

أطلق البنك المركزي الأوروبي تحذيرًا ضمنيًا بتذكيره بأن النقد لم يمت بعد. دوره يتجاوز مجرد المعاملات، فهو يرتبط بالثقة الجماعية والأمان الفردي. وللمغاربة، هذه المذكرة الأوروبية تبدو تحذيرًا بعيدًا وموطنًا في الوقت نفسه : في عالم قد تتغير فيه الأمور فجأة، من الأفضل تنويع وسائل الدفع بين الحداثة والاحتياط


البنك المركزي الأوروبي، النقد، الاحتفاظ بالنقد، السيولة، الاقتصاد الرقمي، التحول الرقمي، الأزمات المالية


عائشة بوسكين صحافية خريجة المعهد العالي للإعلام… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الخميس 25 شتنبر 2025
في نفس الركن