تعيش المنظومة الصحية في المغرب أزمة عميقة تكشفها الهجرة المتزايدة للأطباء من المستشفيات العمومية نحو العيادات الخاصة. في ممرات المستشفيات العمومية، المرضى ينتظرون ساعات طويلة، والطواقم الطبية مرهقة، فيما القطاع الخاص يفتح أبوابه بأعداد متزايدة من المصحات المجهزة بأحدث التقنيات، مستقطباً الأطباء الذين كوّنتهم الدولة بمواردها. هذه الظاهرة لم تعد مجرد اختيار فردي، بل باتت تعبيراً صارخاً عن اختلالات بنيوية.
مشهد عام: عمومي يترنح وخاص يتوسع
على الورق، ارتفعت ميزانيات الصحة بشكل غير مسبوق، وأُعلن عن خطط لتأهيل المستشفيات وبناء كليات جديدة للطب. لكن الواقع مختلف: خصاص في الأطباء، معدات قديمة أو معطلة، وخدمات متدهورة.
في المقابل، يشهد القطاع الخاص طفرة هائلة، إذ تتضاعف المصحات وتُجهّز بأحدث الآلات، مدعومة باستثمارات قوية. هذه الفجوة تجعل وجهة الأطباء شبه محسومة: مناخ عمل أفضل، دخل أعلى، وتقدير مهني أوفر.
انهيار العرض العمومي
عدد الأطباء العاملين لا يكفي لتغطية الحاجيات، والخصاص في التخصصات الحيوية يزداد حدة: التخدير والإنعاش، الأشعة، الجراحة العامة والنسائية. كثير من المستشفيات الإقليمية أصبحت عاجزة عن إجراء عمليات أساسية بسبب رحيل الأطباء، فيما يتحمل من بقي عبء ساعات عمل مرهقة وطلبات متزايدة.
دوافع ثلاثية للهجرة
الراتب. رغم الزيادات الأخيرة، يبقى الفرق شاسعاً بين العمومي والخاص. الطبيب في المستشفى يتقاضى أجراً أقل بكثير مما يمكن أن يحصل عليه في العيادة الخاصة.
المسار المهني. الترقية بطيئة، والإجراءات الإدارية معقدة، والأفق محدود. على النقيض، يوفر الخاص فرصاً أوسع، أحياناً مع إمكانية تملك حصص في رأس المال.
الظروف المادية. النقص في التجهيزات الأساسية يخلق إحباطاً كبيراً. كيف لطبيب أن يُجري عملية دقيقة بلا معدات كاملة أو بأجهزة معطلة منذ أشهر؟
التغطية الصحية الشاملة: وعد اجتماعي وانعكاسات غير محسوبة
تعميم التأمين الإجباري على المرض منح ملايين المغاربة بطاقة ولوج للنظام الصحي. لكن التطبيق العملي كشف عن مفارقة: المواطن يجد نفسه أمام مستشفى عمومي مزدحم وخالٍ من التخصصات، فيتجه مباشرة نحو المصحة الخاصة حيث يمكنه استغلال تغطيته، ولو مع تكاليف إضافية. هذا التحول عزز مكانة القطاع الخاص وأضعف العمومي أكثر.
أصوات من الميدان
طبيب مستعجلات في أحد المستشفيات الجامعية يقول: «فقدنا ثلاثة أطباء تخدير وجراحَين في أقل من سنتين. الضغط صار لا يُطاق».
جرّاح عظام انتقل إلى مصحة خاصة يضيف: «لم أغادر طلباً للمال، بل لرغبتي في العمل بأدوات سليمة وبرنامج عمليات منظم».
طبيبة عامة في مستشفى إقليمي توضح: «المرضى يتدفقون يومياً بأعداد مضاعفة، لكننا نفتقر إلى التخصصات الأساسية وإلى أجهزة عاملة».
مخاطر طب بسرعتين
النتيجة المباشرة هي تعميق الفوارق. الميسورون يلجؤون إلى المصحات حيث الخدمة أسرع والتجهيزات متوفرة. أما الفقراء وسكان القرى، فيواجهون ندرة الأطباء وتأخيرات قاتلة في العلاج. هذه الفجوة الجغرافية والاجتماعية تنذر بتكريس «طب للأغنياء» وآخر للطبقات الشعبية.
مأزق الدولة
الحكومة حاولت امتصاص الأزمة عبر زيادات في الأجور، وتوسيع العرض التعليمي، وإطلاق شراكات بين العام والخاص. لكنها تواجه معضلة أساسية: كيف تجعل المستشفى العمومي جذاباً للأطباء، دون خنق حيوية القطاع الخاص؟
إحدى نقاط التوتر الكبرى هي مسألة الجمع بين العملين. ورغم أنه ممنوع رسمياً، ما يزال مطبقاً في الواقع. غير أن تشديد المراقبة دون بدائل عملية قد يدفع الأطباء إلى الاستقالة الجماعية.
إصلاح مزدوج: إعادة الاعتبار للعمومي وتأطير للخاص
الحل لا يمر عبر العقوبات فقط، بل عبر إعادة صياغة الحوافز: منح علاوات إضافية للمناطق النائية، وضع عقود خدمة بمؤشرات واضحة، تخصيص سكن وظيفي، وإصلاح جذري لصيانة المعدات حتى لا يبقى جهاز الأشعة معطلاً لأسابيع.
أما القطاع الخاص، فمطلوب أن يضطلع بدور مكمّل لا بديل. يمكن فرض شفافية أكبر في الأسعار، تشجيع فتح مصحات في المناطق المهمشة، وإلزام بعض المؤسسات باستقبال طلبة الطب والمتدربين.
المواطن هو الحكم الأخير
في نهاية المطاف، الحكم الفصل هو تجربة المواطن. بطاقته الصحية لا تعني شيئاً إذا لم يجد طبيباً في المستشفى العمومي. المرضى لا يهمهم الصراع بين العام والخاص، بل أن يجدوا سريراً شاغراً، طبيباً مختصاً، ودواءً متوفراً في الوقت المناسب.
تصويت بالأقدام
نزيف الأطباء من العام إلى الخاص ليس خيانة، بل هو تعبير عن تصويت جماعي بالأقدام. الأطباء يختارون حيث يستطيعون ممارسة مهنتهم بكرامة وفعالية. ما لم تستطع الدولة توفير بيئة عمل مجزية ومجهزة في العمومي، فإن هذا النزيف سيستمر. النتيجة الحتمية ستكون ترسيخ طب بسرعتين، يدفع ثمنه أولاً وأخيراً المواطن البسيط.
مشهد عام: عمومي يترنح وخاص يتوسع
على الورق، ارتفعت ميزانيات الصحة بشكل غير مسبوق، وأُعلن عن خطط لتأهيل المستشفيات وبناء كليات جديدة للطب. لكن الواقع مختلف: خصاص في الأطباء، معدات قديمة أو معطلة، وخدمات متدهورة.
في المقابل، يشهد القطاع الخاص طفرة هائلة، إذ تتضاعف المصحات وتُجهّز بأحدث الآلات، مدعومة باستثمارات قوية. هذه الفجوة تجعل وجهة الأطباء شبه محسومة: مناخ عمل أفضل، دخل أعلى، وتقدير مهني أوفر.
انهيار العرض العمومي
عدد الأطباء العاملين لا يكفي لتغطية الحاجيات، والخصاص في التخصصات الحيوية يزداد حدة: التخدير والإنعاش، الأشعة، الجراحة العامة والنسائية. كثير من المستشفيات الإقليمية أصبحت عاجزة عن إجراء عمليات أساسية بسبب رحيل الأطباء، فيما يتحمل من بقي عبء ساعات عمل مرهقة وطلبات متزايدة.
دوافع ثلاثية للهجرة
الراتب. رغم الزيادات الأخيرة، يبقى الفرق شاسعاً بين العمومي والخاص. الطبيب في المستشفى يتقاضى أجراً أقل بكثير مما يمكن أن يحصل عليه في العيادة الخاصة.
المسار المهني. الترقية بطيئة، والإجراءات الإدارية معقدة، والأفق محدود. على النقيض، يوفر الخاص فرصاً أوسع، أحياناً مع إمكانية تملك حصص في رأس المال.
الظروف المادية. النقص في التجهيزات الأساسية يخلق إحباطاً كبيراً. كيف لطبيب أن يُجري عملية دقيقة بلا معدات كاملة أو بأجهزة معطلة منذ أشهر؟
التغطية الصحية الشاملة: وعد اجتماعي وانعكاسات غير محسوبة
تعميم التأمين الإجباري على المرض منح ملايين المغاربة بطاقة ولوج للنظام الصحي. لكن التطبيق العملي كشف عن مفارقة: المواطن يجد نفسه أمام مستشفى عمومي مزدحم وخالٍ من التخصصات، فيتجه مباشرة نحو المصحة الخاصة حيث يمكنه استغلال تغطيته، ولو مع تكاليف إضافية. هذا التحول عزز مكانة القطاع الخاص وأضعف العمومي أكثر.
أصوات من الميدان
طبيب مستعجلات في أحد المستشفيات الجامعية يقول: «فقدنا ثلاثة أطباء تخدير وجراحَين في أقل من سنتين. الضغط صار لا يُطاق».
جرّاح عظام انتقل إلى مصحة خاصة يضيف: «لم أغادر طلباً للمال، بل لرغبتي في العمل بأدوات سليمة وبرنامج عمليات منظم».
طبيبة عامة في مستشفى إقليمي توضح: «المرضى يتدفقون يومياً بأعداد مضاعفة، لكننا نفتقر إلى التخصصات الأساسية وإلى أجهزة عاملة».
مخاطر طب بسرعتين
النتيجة المباشرة هي تعميق الفوارق. الميسورون يلجؤون إلى المصحات حيث الخدمة أسرع والتجهيزات متوفرة. أما الفقراء وسكان القرى، فيواجهون ندرة الأطباء وتأخيرات قاتلة في العلاج. هذه الفجوة الجغرافية والاجتماعية تنذر بتكريس «طب للأغنياء» وآخر للطبقات الشعبية.
مأزق الدولة
الحكومة حاولت امتصاص الأزمة عبر زيادات في الأجور، وتوسيع العرض التعليمي، وإطلاق شراكات بين العام والخاص. لكنها تواجه معضلة أساسية: كيف تجعل المستشفى العمومي جذاباً للأطباء، دون خنق حيوية القطاع الخاص؟
إحدى نقاط التوتر الكبرى هي مسألة الجمع بين العملين. ورغم أنه ممنوع رسمياً، ما يزال مطبقاً في الواقع. غير أن تشديد المراقبة دون بدائل عملية قد يدفع الأطباء إلى الاستقالة الجماعية.
إصلاح مزدوج: إعادة الاعتبار للعمومي وتأطير للخاص
الحل لا يمر عبر العقوبات فقط، بل عبر إعادة صياغة الحوافز: منح علاوات إضافية للمناطق النائية، وضع عقود خدمة بمؤشرات واضحة، تخصيص سكن وظيفي، وإصلاح جذري لصيانة المعدات حتى لا يبقى جهاز الأشعة معطلاً لأسابيع.
أما القطاع الخاص، فمطلوب أن يضطلع بدور مكمّل لا بديل. يمكن فرض شفافية أكبر في الأسعار، تشجيع فتح مصحات في المناطق المهمشة، وإلزام بعض المؤسسات باستقبال طلبة الطب والمتدربين.
المواطن هو الحكم الأخير
في نهاية المطاف، الحكم الفصل هو تجربة المواطن. بطاقته الصحية لا تعني شيئاً إذا لم يجد طبيباً في المستشفى العمومي. المرضى لا يهمهم الصراع بين العام والخاص، بل أن يجدوا سريراً شاغراً، طبيباً مختصاً، ودواءً متوفراً في الوقت المناسب.
تصويت بالأقدام
نزيف الأطباء من العام إلى الخاص ليس خيانة، بل هو تعبير عن تصويت جماعي بالأقدام. الأطباء يختارون حيث يستطيعون ممارسة مهنتهم بكرامة وفعالية. ما لم تستطع الدولة توفير بيئة عمل مجزية ومجهزة في العمومي، فإن هذا النزيف سيستمر. النتيجة الحتمية ستكون ترسيخ طب بسرعتين، يدفع ثمنه أولاً وأخيراً المواطن البسيط.