بقلم: الدكتور محمد السنوسي
صحيح أن المغرب، بقيادة جلالة الملك محمد السادس، انخرط في مشاريع استراتيجية كبرى تعكس طموحًا سياديًا واضحًا لموقعه في القرن الحادي والعشرين: ميناء طنجة المتوسط، مشاريع الطاقات المتجددة، القطار فائق السرعة… كلها أوراش كبرى تؤكد قدرة الدولة على الإنجاز حين تتوفر الإرادة السياسية، والوضوح في الرؤية، والانضباط في التنفيذ.
لكن الحقيقة التي لا يمكن تغليفها بالخطاب هي أن المشكلة لم تكن يومًا في بناء الإسمنت والحديد، بل في بناء الإنسان. فالإنجاز المادي، مهما بلغ حجمه، يظل هشًا حين يُهمل الإنسان الذي من أجله يُنجز، وبه يُصان.
لقد نبه الملك مرارًا، وبوضوح لا يحتمل اللبس: “لا مجال اليوم لمغرب يسير بسرعتين.” ومع ذلك، فإن واقعنا يثبت أن هذا المغرب بسرعتين ليس مجرد خطر، بل أمر واقع. مغرب البنية التحتية يتقدم، ومغرب الإنسان يتعثر. مغرب يختصر طُرق السفر، ومغرب لا يجد فيه مواطن في قرية نائية طبيبًا أو مدرسة أو ماءً صالحًا للشرب.
المشكلة لا تكمن في قلة المشاريع، بل في غياب مشروع مجتمعي متكامل يجعل الكرامة الاجتماعية والعدالة المجالية في صلب السياسات العمومية، لا في هوامشها. فما جدوى محطة قطار عالمية إن كان المواطن لا يجد قطارًا يأخذه إلى كرامته؟ وما نفع مدينة ذكية إن كانت أحياؤها الهامشية غارقة في التهميش؟
المطلوب اليوم ليس أن نراكم الصور المبهرة للعالم، بل أن نبني واقعًا محترمًا للمواطن. المغرب القوي لا يكون فقط بما يُبهر الخارج، بل بما يحترم الداخل. والرهان الحقيقي ليس في ما ننجزه، بل فيمن ننجزه لأجله.
لا يكفي أن نُحرز تقدماً في التقارير والمؤشرات، بينما يكشف الواقع المعيش عن تناقض صارخ معها. فمدرسة عمومية تئن تحت وطأة التدهور، ومستشفيات تقاوم الانهيار بجهد يومي، وشباب يهاجرون جماعات ولو إلى المجهول، وعقول تُغادر بحثًا عن فضاء يحتضن كفاءتها، وثقة عامة تتآكل في مؤسسات يُفترض أن تصون الكرامة وتضمن العدالة. كل ذلك يعكس خللاً عميقاً في أولوياتنا. فالتنمية الحقيقية لا تُقاس بما نشيّده من بنايات، بل بما نصنعه من إنسان.
والأخطر من ذلك أن أمة ما، حين تبدأ بفقدان إيمانها بذاتها، بمشروعها، وبنخبتها، تدخل في حالة من الإنهاك الوجودي. وهذا ما نلمسه اليوم: شباب يتأرجح بين السخرية واليأس، أسر تُصارع يوميًا من أجل الحد الأدنى، مواطنون يشعرون أنهم مجرد هامش في حسابات الدولة، لا جوهرها. كلما بُني طريق أو جُدد مرفق، يتضاعف السؤال: وأين نحن من كل هذا؟
وهنا لا بد من لحظة صدق: التنمية الحقيقية لا تُقاس بالمليارات المرصودة، بل بالإنسان الذي يتمكّن من التحول إلى ذات واعية، ناقدة، مبدعة، ومتصالحة مع نفسها ووطنها. فشلنا لا يكمن فقط في السياسات، بل في الفكرة المؤطّرة لها. لقد راهنّا منذ عقود على نموذج تنموي مفرغ من البُعد الإنساني: رأسمالي، استهلاكي، نخبوي، يُراكم الأرقام لكنه يُهمل الإنسان كقيمة وقضية.
إن المفارقة التي نعيشها اليوم مريرة: تحديث عمراني واقتصادي، في مقابل تعفن في عمق الوعي، وتآكل في الثقة، وضمور في الإحساس بالكرامة، وانفصال خطير بين المواطن والوطن. نعم، نُشيّد الجسور بين المدن، لكننا عاجزون عن بناء الجسور بين الإنسان وذاته، بين الفرد ومجتمعه، بين المواطن ومؤسساته. لقد خسرنا البُعد الرمزي للتنمية، واكتفينا بالبُعد المادي الذي لا يحفر في العمق، بل يزخرف السطح.
ما يحدث ليس مجرد إخفاق مرحلي، بل خلل في الفلسفة التي توجه النموذج التنموي برمته. التنمية ليست مقاولة لتشييد البنى التحتية، بل مشروع حضاري لبناء الإنسان. وإذا لم نُراجع هذه الفكرة الجذرية، فسنظل نُراكم مظاهر التقدم، بينما ينهار المعنى في صمت. المطلوب اليوم ليس فقط تصحيح السياسات، بل إعادة تعريف المشروع الوطني من أساسه: مشروع يكون فيه الإنسان، لا الاقتصاد، هو الغاية القصوى. فبغير إنسان واعٍ، حر، كريم، لا وطن يصمد، ولا اقتصاد يزدهر، ولا تنمية تستمر.
🔹 هل نريد مواطنًا “صالحًا ” أم إنسانًا حرًا؟
سؤال قد يبدو في ظاهره متناقضًا، لكنه في جوهره يُزعزع الأسس التقليدية لفهم المواطنة : معناها، حدودها، وأهدافها. فقد رُوِّج طيلة عقود لفكرة المواطن “الصالح” باعتباره النموذج المثالي: ذلك الذي يلتزم بالقوانين، يؤدي ما عليه من واجبات، لا يُحدث ضجيجًا، يعمل ويستهلك ويعيش في تناغم كامل مع المنظومة، دون أن يُقلقها بأسئلة أو اعتراضات. لكن، هل يكفي هذا النموذج لدفع حركة التقدّم إلى الأمام؟ وهل يجوز اختزال الإنسان في مجرد دور منفّذ، خاضع، منسجم مع السائد، ومفرّغ من كل روح نقدية أو طموح للتحوّل؟
الواقع أن النماذج السائدة اليوم في أغلب المجتمعات، وفي أنظمتها التربوية خصوصًا، لا تزال تصرّ على إنتاج “الرعايا” أكثر مما تسعى إلى تخريج المواطنين الأحرار. نحن نصنع أفرادًا يقبلون الواقع كما هو، يُدرَّبون على الطاعة بدل النقد، وعلى الامتثال بدل الإبداع، وعلى مراقبة أنفسهم بدل مساءلة السلطة. والنتيجة مواطن يشتغل لكنه لا يُفكّر، يعيش لكنه لا يُغيّر، يُقنِع نفسه بأن الوضع على ما يرام حتى عندما تكون كل المؤشرات معاكسة.
في المقابل، لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق تقدمًا حقيقيًا دون وجود الإنسان الحر، ذلك الذي لا يخاف من الخروج عن القطيع، ولا يتردد في مساءلة ما يُقدَّم له من مسلَّمات. الحرية هنا لا تعني الفوضى، بل القدرة على اتخاذ القرار عن وعي، على النقد البنّاء، على الخلق والتجديد، وعلى المجازفة “الأخلاقية” والفكرية في سبيل واقع أفضل. هذا الإنسان لا ينتظر التعليمات، بل يُنتج البدائل، لا يرضى بالقوالب الجاهزة، بل يُحطّمها حين تعيق إنسانيته.
غير أن هذه الحرية تُخيف. تُخيف الأنظمة، وتُخيف المجتمعات ذاتها، لأنها تُربك التوازن الظاهري، وتُهدّد المصالح المستقرة، وتُزعج الخطاب الأبوي السائد. ولهذا، يتم تمجيد “الصلاح” بوصفه الفضيلة العليا، بينما تُحاصَر الحرية في هوامش ضيقة. المواطن الحر يُنظَر إليه بريبة، ويُطلب منه أن “يحترم الحدود”، أن لا يذهب بعيدًا، أن لا يطرح أسئلة لا يحبذها “الكبار”. وهكذا، يُصبح الاستقرار شكلاً من أشكال الجمود، وتُصبح الطاعة فضيلة مغشوشة تُغطي على فقر فكري وأخلاقي عميق.
ما نحتاجه حقًا ليس مواطنًا “يشتغل” فحسب، بل مواطنًا “يفكر” و”يُغيّر”. مواطن لا يُقاس فقط بمدى إنتاجه الاقتصادي، بل بمدى وعيه السياسي والمعرفي. لا نحتاج إلى مزيد من الجنود المدنيين الذين يُنفّذون ما يُطلب منهم، بل إلى أفراد قادرين على المساءلة، والمشاركة في صياغة القرارات، والدفاع عن قيم الحرية والعدالة والكرامة. فالمواطنة ليست فقط أداءً للواجبات أو استهلاكًا للحقوق، بل هي ممارسة نقدية، ووعي دائم، وسعي نحو التجاوز، وقدرة على التحقق.
إن الدولة التي تخاف من الإنسان الحر تُمهّد حتمًا للاستبداد، والمدرسة التي تُخرّج أجيالًا خاضعة تُساهم في تكريس الظلم أكثر مما تُسهِم في نشر المعرفة. والمجتمع الذي يطمح إلى التقدّم لا يمكنه أن ينهض بدون أفراد يملكون أدوات التمكين الذاتي، المعرفي والاقتصادي والسياسي، ويؤمنون بأن التغيير مسؤوليتهم لا منّة من أحد.
لقد آن الأوان لإعادة صياغة مفهوم “المواطن الصالح” ليكون حجر الزاوية في مشروع إعادة بناء الإنسان، لا بوصفه ذلك الذي يلتزم الصمت ويلتزم بالحدود المرسومة له، بل كإنسان يمتلك من الشجاعة ما يكفي ليقول “لا” حين تصبح الطاعة غطاءً للفساد، أو خضوعًا للظلم. ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من التكيّف مع ما هو قائم، بل قدرة حقيقية على تخيّل ما يجب أن يكون. فالمواطن الذي نطمح إليه ليس من يسعى لإرضاء السلطة، بل ذاك الذي يربكها عندما تُخطئ، ويُواجهها عندما تنحرف، ويقترح البدائل عندما تعجز.
المواطنة الحقيقية لا تُبنى بالخوف، بل بالشجاعة. لا تُزهر في بيئة تقمع الأسئلة، بل في تربة تُخصّبها الحريات. ولهذا، لا بد أن نكفّ عن صناعة مواطن خاضع، ونبدأ في تمكين الإنسان الحر: القادر على التفكير، النقد، المواجهة، والتغيير. فالعالم لا يتغير بالأتباع، بل بأولئك الذين يُزعجون السائد ليصنعوا العادل.
🔹 من إعادة الترميم إلى ثورة الوعي
من إعادة الترميم إلى ثورة الوعي، تبرز الحاجة الملحّة إلى تجاوز الإصلاحات التقنية السطحية التي تُجمّل الواقع دون أن تغيّره في جوهره. نحن لا نفتقر إلى مشاريع أو برامج أو خطط، بل نفتقر إلى رؤية جديدة للإنسان، إلى ثورة عميقة تعيد صياغة تصورنا للمواطن، ليس ككائن يُطوَّع لخدمة المنظومة، بل كذات حرة، ناقدة، مبدعة، ومسؤولة.
في السياق المغربي، بل في كثير من المجتمعات المشابهة، يبدو أن المقاربات المتبعة لا تزال حبيسة منطق الترميم والتسكين. كلما ظهرت أزمة، يُطرح “حلّ تقني”، وكلما انكشف خلل، تُقترح “إصلاحات هيكلية”، لكنها في الغالب لا تمسّ جوهر الإشكال: الإنسان نفسه. نحن بحاجة إلى مشروع مجتمعي لا ينظر إلى الإنسان بوصفه وسيلة، أو مجرد عنصر في سوق الشغل، بل كغاية في ذاته، ككائن يجب أن نراهن عليه، نثق فيه، ونراكم حوله المعنى والمستقبل.
وتبدأ هذه الثورة من التعليم. لا يمكن لمجتمع أن يتحول جذريًا دون منظومة تعليمية تُحرّر العقل بدل أن تُلقّنه، تُشجّع التفكير النقدي بدل الحفظ، وتُعلّم الطفل كيف يسأل قبل أن تطلب منه أن يجيب. التعليم الذي يُنتج الانقياد هو تعليم يُصنّع مواطنين هشّين فكريًا، غير قادرين على اتخاذ القرار أو المساهمة في بناء البدائل. أما التعليم المحرّر، فهو وحده القادر على تخريج أجيال تؤمن بأن لها دورًا في صياغة الحاضر وتخيّل المستقبل.
وإذا كان التعليم هو البذرة، فإن الثقافة هي التربة التي تحتضن هذه البذرة وتمنحها ما تحتاج لتنمو وتثمر وعياً حياً. نحن لا نحتاج إلى ثقافة تُقدّس الخضوع وتُمجّد الامتثال، ولا إلى ثقافة تُروّج للتفاهة أو تركن إلى التقاليد والخرافات كمقدسات لا تُمس، بل إلى ثقافة تحتفي بالسؤال، تُعلّم التمرد الإيجابي الذي يبدأ من نقد الذات، وتُشجع الفرد على الشك الخلّاق بدل التصديق الأعمى. نحتاج إلى ثقافة تُذكّر الإنسان بأنه ليس كائناً سلبياً يتلقى الأوامر، بل فاعلاً مسؤولاً، يحمل رسالة في هذا الوجود، وأن التغيير الحقيقي لا يأتيه من الخارج، بل يبدأ من داخله، من لحظة وعيه بكرامته وقيمته وقدرته على التأثير.
أما السياسات الاجتماعية، فلا يجب أن تُختزل في مجرد إعانات ظرفية تُقدّم للفئات الهشة، بل يجب أن تهدف إلى كسر منطق الهشاشة من جذوره. المطلوب ليس فقط رعاية المحتاج، بل تمكينه. المطلوب ليس مجرد علاج الجرح، بل خلق بيئة تمنع تكراره. فحين يُزرع في الإنسان الشعور بقدرته على الخروج من الهشاشة، يصبح الدعم خطوة نحو الاستقلال لا أداة لإدامة التبعية. وهذا يستدعي تغييرًا جذريًا في منطق السياسة الاجتماعية: من الرعاية إلى التمكين، من التدخل الظرفي إلى بناء مسارات ذاتية للكرامة.
ولا يمكن إغفال الدور الحاسم للإعلام. الإعلام الذي يُخدّر الوعي، يُزيّف الواقع، ويُلهي الناس عن الأسئلة الكبرى، ليس إعلامًا بل أداة تطبيع. نحتاج إلى إعلام يُنير لا يُضلّل، يُحرّك لا يُجمّد، يُساهم في إنتاج وعي جمعي قادر على المساءلة، لا مجرد تكرار الخطاب الرسمي أو الانشغال بالفراغ. الإعلام الحقيقي هو الذي يجعل الإنسان يُفكر، يتفاعل، ويشكّل رأيًا مستقلًا لا مستوردًا.
ومن المفارقات التي يكشفها الواقع، أن الإنجاز المادي غالبًا ما يُغطي على الفقر الإنساني. نبني قطارات عالية السرعة، لكن وعي الركاب ما زال عالقًا في القرن الماضي. نُشيّد ملاعب ضخمة، بينما أطفال الأحياء الهامشية لا يجدون كرة يلعبون بها. هذه المفارقة تفضح اختلال الأولويات، وتُظهر بوضوح أن التنمية ليست مجرد عمران، بل بناء للإنسان. فالمجتمع الذي لا يراهن على الإنسان، يركض نحو التقدم بجسدٍ بلا روح.
الثورة التي نحتاجها اليوم ليست مجرد تغيير في الوجوه أو تعديل لبعض القوانين، بل هي ثورة أعمق بكثير، ثورة في كيفية رؤيتنا للإنسان ومكانته في المشروع الوطني. إنها ثورة في السلوكيات، في المناهج التعليمية، في الخطاب العام، في السياسات المتبعة، وفي بنية الوعي الجماعي ذاته. فلا يمكن أن نتحدث عن مغرب جديد أو عن مستقبل مزدهر، ما لم نُنتج إنسانًا يمتلك وعياً نقدياً حراً، وإحساساً راسخاً بكرامته، وقدرة حقيقية على المشاركة والإبداع، وعلى ممارسة التمرد الإيجابي الذي لا يهدم، بل يُعيد البناء على أسس أكثر عدلاً وإنسانية، لمغرب يستحقه الجميع.
لقد تعبنا من الترميم. آن الأوان لننتقل إلى ما هو أعمق: ثورة في الوعي تُعيد للإنسان مكانته المركزية في المشروع المجتمعي. فالمستقبل لا تصنعه البنايات، بل العقول. ولا تحققه السرعة، بل الرؤية. نحن بحاجة إلى إنسان لا يشتغل فقط، بل يُفكر. لا يستهلك فقط، بل يُنتج. لا يطيع فقط، بل يُغيّر. حينها فقط، يمكن أن نقول إننا بدأنا نخرج من الماضي، وندخل فعلاً إلى زمننا لبناء المستقبل الأفضل.
🔹 دروس من العالم : حين يصعد الإنسان، تصعد الأمة
حين يصعد الإنسان، تصعد الأمة، هذه ليست مجرد عبارة شاعرية، بل حقيقة تؤكدها تجارب شعوب نهضت من تحت الأنقاض، لا بفضل الثروات الطبيعية أو الصفقات الاقتصادية الكبرى، بل بفضل رهانها الجريء على الإنسان: على عقله، ووعيه، وكرامته، وقدرته على التغيير. ولعل من أكثر الدروس إلهامًا ما تقدّمه تجارب دول مثل كوريا الجنوبية، رواندا، فنلندا، وحتى تشيلي، رغم اختلاف السياقات والموارد والأنظمة. لكن القاسم المشترك بينها جميعًا أنها أدركت أن النهضة تبدأ من الداخل، من الإنسان أولًا، لا من الخارج.
كوريا الجنوبية لم تحقق معجزتها الاقتصادية ببناء الشركات فقط، بل بتأسيس عقل نقدي حرّ في مدارسها وجامعاتها. اختارت أن تبدأ من العقل قبل الآلة، من الفكرة قبل المصنع. التعليم هناك ليس مجرد وسيلة لإنتاج موظفين، بل مسار لصقل الإنسان القادر على الإبداع، والمبادرة، والانخراط في مشروع وطني يتجاوز الرغبة الفردية إلى الطموح الجماعي. رواندا، الخارجة من واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الحديث، رفضت أن تُعرّف نفسها بالمأساة. جعلت من المصالحة، وبناء الذات الوطنية، وتحقيق النموذج الاجتماعي العادل، مشروع دولة. دولة قررت ألا تعيش رهينة الماضي، بل أن تُعيد بناء الإنسان كأفق للمستقبل. أما فنلندا، فقد اختارت أن تجعل من التعليم رهان كرامة. لم تتعامل معه كبرنامج إصلاحي عابر، بل كجوهر السيادة نفسها. المدرسة هناك ليست مؤسسة تلقين، بل فضاء لبناء الإنسان المستقل، الحر، الواثق، والمسؤول.
هذه النماذج، رغم تباين السياقات السياسية والثقافية والاقتصادية، تشترك في فلسفة واحدة: لا نهوض دون إنسان واعٍ، حر، ومُمكَّن. وهي فلسفة تُعلّمنا أن الاستثمار الحقيقي ليس في الإسمنت، ولا في الأبراج، ولا حتى في الصفقات الكبرى، بل في الإنسان. فإذا صعد الإنسان، صعدت معه الأمة. وإذا أُهين أو أُقصي أو تم تجفيف منابع وعيه، تهاوت الأمة مهما بدا مظهرها الخارجي مزدهرًا.
لكن المفارقة المؤلمة أن المغرب، برغم كل ما يمتلكه من إمكانات بشرية، لا يزال بعيدًا عن هذا الرهان. ليس لأنه يفتقر إلى الموارد، بل لأنه يفتقر إلى الخيال السياسي والتربوي. الإنسان المغربي أثبت في أكثر من مناسبة، أنه قادر على الإنجاز، والابتكار، وتحقيق التميز. نراه يتألق في الرياضة، في المهجر، في ريادة الأعمال، وفي الأوساط العلمية الدولية. لكنه في الداخل، يجد نفسه محاصرًا بمنظومة تعليمية تقليدية تُجهض طموحه منذ المراحل الأولى، وبنظام إداري ثقيل يُعطّل المبادرة، وبإعلام يُفرغ القضايا من مضمونها، وبسياسات تُقنّن الفشل وتُسوّق الرداءة كواقع لا بد منه.
الأدهى أن هناك هدرًا مستمرًا للطاقة الوطنية. كل شاب يهاجر بحثًا عن كرامته، كل باحث يُقصى من الجامعة لأنه غير منسجم مع الولاء السياسي، كل مبادرة شبابية تُجهض لأنها لا تمر عبر قنوات الزبونية، هو دليل إضافي على أننا نمتلك الكفاءات، لكننا لا نمتلك الإرادة السياسية والثقافية لإطلاق طاقاتها. الإنسان المغربي ليس مشكلة، بل هو مشروع معطّل، مع سبق الإصرار.
إن الخلل ليس في الفرد المغربي، بل في المنظومة التي تتعامل معه بريبة، وكأنها تخاف من وعيه، من نقده، من مبادرته. تُطالبه بالامتثال لا بالمشاركة، بالسكوت لا بالاقتراح، بالنجاح الفردي لا بالمساهمة الجماعية. والنتيجة مجتمع يتحرك ببطء، تتآكله اللامبالاة، وتُهدده موجات السخط الصامت، لأن الإنسان فيه يشعر أنه مُراقَب أكثر مما هو مُحتضَن، وأن الوطن لا يبادله الثقة بالثقة.
لذلك، فالدرس الأهم الذي تقدمه لنا تجارب الشعوب الناهضة هو أن الطريق إلى التنمية لا يمر فقط عبر الاستثمارات والبنيات التحتية، بل عبر ثورة في طريقة النظر إلى المواطن. نحتاج إلى أن نحرر الإنسان المغربي من قيد التهميش، من إسكات صوته، ومن كسر ثقته بذاته وبمؤسساته. نحتاج إلى مشروع وطني لا يُراهن على الولاءات، بل على الكفاءات. لا يُدار بمنطق الخوف، بل بمنطق الأمل والمشاركة والتمكين.
فهل يستطيع المغرب أن يستخلص العِبر من هذه التجارب بصدق، لا لمجرد الاستعراض الإعلامي؟ هل يمكننا أن نتجاوز الاقتباس السطحي لنماذج الآخرين، نحو التعمق في جوهر فلسفتهم التنموية؟ أن نتحرر من منطق النسخ والتقليد، لننتقل إلى استلهام الروح التي صنعت تحوّلهم؟ عندها فقط، لن نظل مجرد مشاهدين لصعود دول أخرى، بل سنصبح فاعلين في مسار نهوض حقيقي، لأن الإنسان فينا سيكون قد نهض أولاً.
ولتحقيق ذلك، لا بد من نخبة مختلفة: نخبة واعية، مسؤولة، ومؤمنة بواجبها الأخلاقي تجاه الوطن والإنسان، نخبة تضع المشروع المجتمعي في قلب أولوياتها، لا مصالحها الشخصية أو الفئوية.
🔹 أي نخبة لقيادة مشروع “إعادة بناء الإنسان”؟
إن الحديث عن مشروع “إعادة بناء الإنسان” لا يُمكن أن يُؤخذ على محمل الجد ما لم يُطرح معه سؤال حاسم: أي نخبة نحتاج لقيادة هذا المشروع؟ فالمشاريع الكبرى لا تصنعها النوايا الطيبة ولا تُفعّلها البيروقراطيات المعتادة، بل تتطلب قيادة فكرية وروحية وثقافية تتجاوز منطق الإدارة التقنية إلى أفق الرؤية الحضارية. الإنسان لا يُعاد بناؤه فقط بالمناهج والخطط، بل بمن يُفكر فيها، بمن يُجسّدها، بمن يملك الجرأة على مساءلة المسلمات وتفكيك البُنى الذهنية التي كبّلته.
إ نحن اليوم أمام مفارقة موجعة: نُعلن، بخطاب متكرّر، حاجتنا إلى مشروع مجتمعي جديد، في وقت ما تزال فيه أغلب نخبنا أسيرة أنماط تفكير متقادمة، متمركزة حول ذاتها، تفتقر للقدرة على الإلهام والتجديد. ورغم وجود بعض الفعاليات الفردية الصادقة، التي تُثبت إخلاصها للوطن وصدق نواياها تجاه المواطن، فإنها غالبًا ما تبقى معزولة، تُحاصرها قوى التقليد والتهميش.
في هذا السياق، يصبح الحديث عن “نهضة الإنسان” في ظل نخبة تُعيد إنتاج الرداءة، وتصرف جهدها في التموقع والصراعات الهامشية بدل الانخراط في صناعة المعنى، مجرد خطاب بلا جدوى. فالأغلبية من هذه النخبة ترى في السياسة سوقًا للمنافع لا فضاءً لبناء الثقة، وفي الثقافة ترفًا هامشيًا بدل أن تعترف بها كمحرّك حقيقي لأي تحوّل اجتماعي عميق.
وهكذا، تظل مشاريع “الإصلاح” تدور في الفراغ، لأنها تُدار بعقليات لم تُراجع ذاتها، ولم تخضع لنقد جذري لدورها ووظيفتها في المجتمع. إن الإصلاح لا يمكن أن يكون ثمرة لنخب تخشى المساءلة، أو تنظر إلى التغيير كتهديد لمصالحها، لا كفرصة لإعادة بناء وطن أكثر عدالة وكرامة.
ولذلك، فإعادة بناء الإنسان تقتضي أولًا إعادة تشكيل النخبة. نحتاج إلى نخب فكرية جديدة تعيد تعريف مفهوم “الوطنية”، لا بوصفها انتماءً شعاراتيًا، بل التزامًا أخلاقيًا وعمليًا بمصير الإنسان في هذا الوطن. وطنية تُنظَر إلى المواطن لا كرقم في معادلة انتخابية، بل كغاية بحد ذاته، كقيمة عليا يجب أن تُصان وتُغذّى بالكرامة والحرية والوعي. نخب لا تُقيس نجاحها بعدد الظهور الإعلامي، بل بمدى قدرتها على إحداث أثر عميق في الثقافة العامة، في الخطاب السياسي، في الفكر الجماعي.
نحن بحاجة إلى قيادات شابة تمارس السياسة كفن لبناء الأمل، لا كمهنة للتموقع والانتهازية. شباب مشبع برؤية تضع الإنسان في صلب المشروع، لا يرى في العمل العام غنيمة تُقتسم، بل مسؤولية تُحمَل. فعندما يُمنح هذا الشباب الفضاء الحقيقي والدور الفعلي، يُفكّر بمنطق البناء لا المكاسب، بمنطق المستقبل لا التحايل على الحاضر.
لأن من لم يتورط بعدُ في شبكات المصالح الضيقة، يظل أكثر قدرة على الصراحة، على الحلم، وعلى الإبداع الجريء خارج الصيغ الجاهزة. المطلوب اليوم ليس مجرد إشراك رمزي للشباب داخل المؤسسات، بل الاعتراف الجاد بأن مستقبل الوطن يُبنى من القاعدة، لا من القمة، وأن هذا البناء يجب أن ينطلق من الإنسان ذاته، من إشراكه في صياغة الرؤية، لا فقط في تنفيذ قرارات جاهزة لا تعكس روحه ولا طموحه.
ومن جهة أخرى، لا يمكن لأي مشروع يروم إعادة بناء الإنسان أن يُكتب له النجاح دون إشراك فعلي للمفكرين، والخبراء الاستراتيجيين والتربويين، والمثقفين، والفنانين. فالإبداع ليس عنصراً تجميلياً يُضاف في المراحل الأخيرة، بل هو في عمق العملية التنموية وجوهرها. فالتجارب العالمية التي صنعت نهضات حقيقية لم تكتفِ بتحسين المؤشرات الاقتصادية أو تحديث البنى التحتية، بل سبقتها ثورات في الوعي، بتحرير الخيال الجماعي، وبنشر ثقافة تُعلي من شأن السؤال لا الخضوع، تحفّز الإحساس لا تُخدره، وتنتج الجمال كقيمة إنسانية لا كترف بصري.
الفن، كما الفكر، هو أداة للمقاومة مثلما هو أداة للبناء. حين يغيب البُعد الثقافي والفكري عن أي مشروع تنموي، يُعاد إنتاج الإنسان ككائن نافع وظيفيًا، لا كذات حرّة خلاقة. وهذا هو الفشل الحقيقي: أن نُشيّد كل شيء، ونفقد الإنسان.
لذلك، فإن الحديث عن تغيير جذري يصبح بلا مضمون إذا لم يكن مؤطَّرًا بعقول مبدعة قادرة على العمل خارج القوالب. فالقوالب هي ما نسعى لتفكيكه: البيروقراطيات العقيمة التي لا تفكر، الأحزاب التي لا تحلم، المؤسسات التي تخشى النقد، النخب التي تخاف من الضوء الحقيقي.
نحن لا نحتاج إلى نخب تُجيد حفظ التوازنات الهشّة، بل إلى نخب تجرؤ على الإخلال بها لتصنع توازنًا جديدًا أكثر عدلاً وصدقًا. لا نحتاج إلى مَن يُردّد ما قيل مرارًا، بل إلى مَن يملك الشجاعة لقول ما لم يُقل بعد.
إن إعادة بناء الإنسان ليست ورشة تقنية، بل مشروع حضاري طويل النفس، يتطلب قيادات من نوع خاص: تؤمن بأن التنمية تبدأ من الوعي، بأن السياسة فعل ثقافي، وبأن الثقافة هي روح السياسة. نحتاج إلى من يتقن العمل بصمت، لكنه يُحدث أثرًا صاخبًا. إلى من لا يبحث عن الوجاهة، بل عن الجدوى. إلى من يرى في كل إنسان مشروعًا كاملاً لا مجرد وسيلة. فقط بهؤلاء، يمكن أن تتحول النخبة من مشكلة إلى حل، من عبء إلى أفق. وفقط حين تتغير النخبة، يُمكن أن يبدأ المشروع الحقيقي لإعادة بناء الإنسان المغربي: حرًا، واعيًا، وفاعلاً في زمنه
ما نحن في أمسّ الحاجة إليه اليوم ليس مزيدًا من التقارير الباردة، المصاغة بلغة خشبية تُزيّن الأزمة بأرقام صمّاء، ولا إلى خطابات مكررة تُراكم الأوهام وتُخدّر الوعي بدل أن تفتح كوة أمل في جدار الإحباط. ما نحتاجه، حقًا وبإلحاح، هو ميثاق وطني حيّ، يُعيد الاعتبار للإنسان لا كشعار، بل كقضية، كهدف، كمعيار لأي سياسة أو مشروع.
ميثاق لا يُكتب خلف الكواليس المغلقة، بل يُستمد من نبض الشارع، من أوجاع الناس، من شقاء الأمهات، ومن تطلعات شباب لم يعد يصدّق الوعود المؤجلة. ميثاق ينبثق من صرخة التلميذ في المدرسة العمومية، ومن خيبة المثقف المُهمَّش، ومن مرارة الشاب الذي يرى في الهجرة خلاصًا، لا خيارًا.
إن اللحظة التاريخية التي نمر بها تقتضي جرأة جذرية، لا ترقيعات شكلية. فقد جُرّبت كل المقاربات “المُسكّنة”، تلك التي تُلامس أطراف الجرح دون أن تجرؤ على النزول إلى العمق. جُرّبت “إصلاحات” تُرضي مراكز القرار وتُروَّج على أنها تقدم، وهي في الحقيقة ليست سوى أدوات لتأجيل الانفجار، لا لنزع أسبابه.
وقد آن الأوان لأن نتوقف عن الهروب من السؤال الجوهري، الذي تهرب منه الدولة كما يتهرب منه المجتمع: من هو المواطن المغربي الذي نريده؟
هل نريده مجرّد كائن مطيع، يُدمَج بصمت في منظومة لا تعترف بكرامته ولا بصوته؟
هل نريده رقمًا في سوق الشغل، ورقة انتخابية تُستدعى عند الحاجة، ثم تُركن على الرفّ؟
أم نريده إنسانًا حرًا، فاعلًا، ناقدًا، يمتلك وعيه، وكرامته، وحقه في أن يُسائل، ويقترح، ويبني؟
هذا السؤال لم يعُد من الممكن تأجيله، لأنه أساس كل شيء. فكل مشروع تنموي، مهما بلغت دقة خططه وجاذبية شعاراته، يبقى مشروعًا ناقصًا ومعطوبًا، ما لم يُجب بوضوح على هذا السؤال.
إنه ليس سؤالًا فلسفيًا أو تنظيريًا، بل سؤال مصير: من دون إنسان حر، لا تنمية حقيقية، ولا استقرار دائم، ولا مستقبل يستحق أن نؤمن به.
فلنُعلنها بصفاء الرؤية وصدق المبادئ: لا تنمية حقيقية بدون إنسان جديد.
والمقصود ليس إنسانًا يُعاد تشكيله كأنّه هو الخلل، بل إنسان يُحرَّر من كل ما كبّل وعيه، وقزّم أحلامه، وأفرغه من صوته، وزعزع ثقته في قدرته على الفعل والتأثير. الإنسان هو الأصل، لا العائق؛ هو النواة، لا الحاشية.
لا يُبنى مغرب عادل، قوي ومتوازن، ما دام المواطن يُعامل كوصيف دائم في وطنه، يُشكّ في حكمه، ويُقصى من قرارات مصيرية تُتّخذ باسمه، ثم يُنتظر منه أن يُصفّق، لا أن يُفكر، أن يُنفّذ، لا أن يُسائل.
نريد إنسانًا شريكًا لا تابعًا، خالقًا للمعنى لا حارسًا له، ممتلئًا بالكرامة لا مثقلًا بالولاء الفارغ.
لهذا، فإن مستقبل المغرب يبدأ من ثورة فكرية هادئة وعميقة. فكر يعيد تعريف السياسة لا كأداة للهيمنة، بل كفن لخدمة الإنسان والارتقاء به. فكر يُحرّر الخطاب العمومي من لغة التبرير، ويستبدل منطق الأعذار بمنطق المسؤولية. نحن بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة تؤمن أن النقد شرف، لا خيانة، وأن الاختلاف وقود للنهضة، لا تهديد لوحدة الوطن.
ولا نهوض دون كرامة، لا كرامة بدون احترام الإنسان، في مدرسته، في مشفاه، في إدارته، في هامش مدينته. الكرامة لا تعني فقط أن يتحسّن دخله، بل أن تُصان إنسانيته في كل لحظة من يومه. أن يشعر أن صوته مسموع، وأن حياته ليست تفصيلًا في مخططات لم يُستشر فيها، بل أولوية حقيقية.
وإذا كان المغرب يطمح عن حق إلى أن يكون قوة إقليمية صاعدة، فعليه أن يتبنّى المعادلة الأقدم والأصدق في تاريخ الدول:
ابنِ الإنسان، تبنِ الدولة. حرّر الوعي، تحقّق التنمية. ازرع الكرامة، تجنِ الاستقرار.
فلا تنمية مستدامة دون عقول متحررة من الخوف، ولا مواطنة صادقة دون ضمائر متصالحة مع ذاتها، ولا ديمقراطية حقيقية دون مواطنين يُدركون أنهم شركاء في القرار، لا منفذون صامتون.
من هنا، ومن منطلق المسؤولية الصادقة، وبنزاهة تتجرد من كل حسابات الذات، ومن حب عميق لهذا الوطن، وبوعي حيّ ومتجذّر في الواقع والتاريخ، فلنُعلن بوضوح: ورشة إعادة بناء الإنسان المغربي ليست ترفًا ولا خيارًا مؤجلًا، بل قدر تاريخي، لا نهوض ممكنًا من دونه.
لم نعد بحاجة إلى مشاريع اقتصادية ضخمة تُخدّر الضمير وتُقصي الإنسان عن صلب الغايات.
لم نعد نرغب في بنى تحتية مبهرة، يقف عليها مواطن مكسور من الداخل، فاقد للمعنى والانتماء.
لا نريد تسويقًا وهميًا للتقدم، بل نريد ترجمة صادقة تُقاس بكرامة المواطن، لا بإعجاب الزائر.
اللحظة تتطلب شجاعة النظر في العمق: الإنسان أولًا، والإنسان أخيرًا.
أما ما عداه، وإن بدا كبيرًا، فهو تفاصيل… لا تصنع التاريخ وحدها.
لكن الحقيقة التي لا يمكن تغليفها بالخطاب هي أن المشكلة لم تكن يومًا في بناء الإسمنت والحديد، بل في بناء الإنسان. فالإنجاز المادي، مهما بلغ حجمه، يظل هشًا حين يُهمل الإنسان الذي من أجله يُنجز، وبه يُصان.
لقد نبه الملك مرارًا، وبوضوح لا يحتمل اللبس: “لا مجال اليوم لمغرب يسير بسرعتين.” ومع ذلك، فإن واقعنا يثبت أن هذا المغرب بسرعتين ليس مجرد خطر، بل أمر واقع. مغرب البنية التحتية يتقدم، ومغرب الإنسان يتعثر. مغرب يختصر طُرق السفر، ومغرب لا يجد فيه مواطن في قرية نائية طبيبًا أو مدرسة أو ماءً صالحًا للشرب.
المشكلة لا تكمن في قلة المشاريع، بل في غياب مشروع مجتمعي متكامل يجعل الكرامة الاجتماعية والعدالة المجالية في صلب السياسات العمومية، لا في هوامشها. فما جدوى محطة قطار عالمية إن كان المواطن لا يجد قطارًا يأخذه إلى كرامته؟ وما نفع مدينة ذكية إن كانت أحياؤها الهامشية غارقة في التهميش؟
المطلوب اليوم ليس أن نراكم الصور المبهرة للعالم، بل أن نبني واقعًا محترمًا للمواطن. المغرب القوي لا يكون فقط بما يُبهر الخارج، بل بما يحترم الداخل. والرهان الحقيقي ليس في ما ننجزه، بل فيمن ننجزه لأجله.
لا يكفي أن نُحرز تقدماً في التقارير والمؤشرات، بينما يكشف الواقع المعيش عن تناقض صارخ معها. فمدرسة عمومية تئن تحت وطأة التدهور، ومستشفيات تقاوم الانهيار بجهد يومي، وشباب يهاجرون جماعات ولو إلى المجهول، وعقول تُغادر بحثًا عن فضاء يحتضن كفاءتها، وثقة عامة تتآكل في مؤسسات يُفترض أن تصون الكرامة وتضمن العدالة. كل ذلك يعكس خللاً عميقاً في أولوياتنا. فالتنمية الحقيقية لا تُقاس بما نشيّده من بنايات، بل بما نصنعه من إنسان.
والأخطر من ذلك أن أمة ما، حين تبدأ بفقدان إيمانها بذاتها، بمشروعها، وبنخبتها، تدخل في حالة من الإنهاك الوجودي. وهذا ما نلمسه اليوم: شباب يتأرجح بين السخرية واليأس، أسر تُصارع يوميًا من أجل الحد الأدنى، مواطنون يشعرون أنهم مجرد هامش في حسابات الدولة، لا جوهرها. كلما بُني طريق أو جُدد مرفق، يتضاعف السؤال: وأين نحن من كل هذا؟
وهنا لا بد من لحظة صدق: التنمية الحقيقية لا تُقاس بالمليارات المرصودة، بل بالإنسان الذي يتمكّن من التحول إلى ذات واعية، ناقدة، مبدعة، ومتصالحة مع نفسها ووطنها. فشلنا لا يكمن فقط في السياسات، بل في الفكرة المؤطّرة لها. لقد راهنّا منذ عقود على نموذج تنموي مفرغ من البُعد الإنساني: رأسمالي، استهلاكي، نخبوي، يُراكم الأرقام لكنه يُهمل الإنسان كقيمة وقضية.
إن المفارقة التي نعيشها اليوم مريرة: تحديث عمراني واقتصادي، في مقابل تعفن في عمق الوعي، وتآكل في الثقة، وضمور في الإحساس بالكرامة، وانفصال خطير بين المواطن والوطن. نعم، نُشيّد الجسور بين المدن، لكننا عاجزون عن بناء الجسور بين الإنسان وذاته، بين الفرد ومجتمعه، بين المواطن ومؤسساته. لقد خسرنا البُعد الرمزي للتنمية، واكتفينا بالبُعد المادي الذي لا يحفر في العمق، بل يزخرف السطح.
ما يحدث ليس مجرد إخفاق مرحلي، بل خلل في الفلسفة التي توجه النموذج التنموي برمته. التنمية ليست مقاولة لتشييد البنى التحتية، بل مشروع حضاري لبناء الإنسان. وإذا لم نُراجع هذه الفكرة الجذرية، فسنظل نُراكم مظاهر التقدم، بينما ينهار المعنى في صمت. المطلوب اليوم ليس فقط تصحيح السياسات، بل إعادة تعريف المشروع الوطني من أساسه: مشروع يكون فيه الإنسان، لا الاقتصاد، هو الغاية القصوى. فبغير إنسان واعٍ، حر، كريم، لا وطن يصمد، ولا اقتصاد يزدهر، ولا تنمية تستمر.
🔹 هل نريد مواطنًا “صالحًا ” أم إنسانًا حرًا؟
سؤال قد يبدو في ظاهره متناقضًا، لكنه في جوهره يُزعزع الأسس التقليدية لفهم المواطنة : معناها، حدودها، وأهدافها. فقد رُوِّج طيلة عقود لفكرة المواطن “الصالح” باعتباره النموذج المثالي: ذلك الذي يلتزم بالقوانين، يؤدي ما عليه من واجبات، لا يُحدث ضجيجًا، يعمل ويستهلك ويعيش في تناغم كامل مع المنظومة، دون أن يُقلقها بأسئلة أو اعتراضات. لكن، هل يكفي هذا النموذج لدفع حركة التقدّم إلى الأمام؟ وهل يجوز اختزال الإنسان في مجرد دور منفّذ، خاضع، منسجم مع السائد، ومفرّغ من كل روح نقدية أو طموح للتحوّل؟
الواقع أن النماذج السائدة اليوم في أغلب المجتمعات، وفي أنظمتها التربوية خصوصًا، لا تزال تصرّ على إنتاج “الرعايا” أكثر مما تسعى إلى تخريج المواطنين الأحرار. نحن نصنع أفرادًا يقبلون الواقع كما هو، يُدرَّبون على الطاعة بدل النقد، وعلى الامتثال بدل الإبداع، وعلى مراقبة أنفسهم بدل مساءلة السلطة. والنتيجة مواطن يشتغل لكنه لا يُفكّر، يعيش لكنه لا يُغيّر، يُقنِع نفسه بأن الوضع على ما يرام حتى عندما تكون كل المؤشرات معاكسة.
في المقابل، لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق تقدمًا حقيقيًا دون وجود الإنسان الحر، ذلك الذي لا يخاف من الخروج عن القطيع، ولا يتردد في مساءلة ما يُقدَّم له من مسلَّمات. الحرية هنا لا تعني الفوضى، بل القدرة على اتخاذ القرار عن وعي، على النقد البنّاء، على الخلق والتجديد، وعلى المجازفة “الأخلاقية” والفكرية في سبيل واقع أفضل. هذا الإنسان لا ينتظر التعليمات، بل يُنتج البدائل، لا يرضى بالقوالب الجاهزة، بل يُحطّمها حين تعيق إنسانيته.
غير أن هذه الحرية تُخيف. تُخيف الأنظمة، وتُخيف المجتمعات ذاتها، لأنها تُربك التوازن الظاهري، وتُهدّد المصالح المستقرة، وتُزعج الخطاب الأبوي السائد. ولهذا، يتم تمجيد “الصلاح” بوصفه الفضيلة العليا، بينما تُحاصَر الحرية في هوامش ضيقة. المواطن الحر يُنظَر إليه بريبة، ويُطلب منه أن “يحترم الحدود”، أن لا يذهب بعيدًا، أن لا يطرح أسئلة لا يحبذها “الكبار”. وهكذا، يُصبح الاستقرار شكلاً من أشكال الجمود، وتُصبح الطاعة فضيلة مغشوشة تُغطي على فقر فكري وأخلاقي عميق.
ما نحتاجه حقًا ليس مواطنًا “يشتغل” فحسب، بل مواطنًا “يفكر” و”يُغيّر”. مواطن لا يُقاس فقط بمدى إنتاجه الاقتصادي، بل بمدى وعيه السياسي والمعرفي. لا نحتاج إلى مزيد من الجنود المدنيين الذين يُنفّذون ما يُطلب منهم، بل إلى أفراد قادرين على المساءلة، والمشاركة في صياغة القرارات، والدفاع عن قيم الحرية والعدالة والكرامة. فالمواطنة ليست فقط أداءً للواجبات أو استهلاكًا للحقوق، بل هي ممارسة نقدية، ووعي دائم، وسعي نحو التجاوز، وقدرة على التحقق.
إن الدولة التي تخاف من الإنسان الحر تُمهّد حتمًا للاستبداد، والمدرسة التي تُخرّج أجيالًا خاضعة تُساهم في تكريس الظلم أكثر مما تُسهِم في نشر المعرفة. والمجتمع الذي يطمح إلى التقدّم لا يمكنه أن ينهض بدون أفراد يملكون أدوات التمكين الذاتي، المعرفي والاقتصادي والسياسي، ويؤمنون بأن التغيير مسؤوليتهم لا منّة من أحد.
لقد آن الأوان لإعادة صياغة مفهوم “المواطن الصالح” ليكون حجر الزاوية في مشروع إعادة بناء الإنسان، لا بوصفه ذلك الذي يلتزم الصمت ويلتزم بالحدود المرسومة له، بل كإنسان يمتلك من الشجاعة ما يكفي ليقول “لا” حين تصبح الطاعة غطاءً للفساد، أو خضوعًا للظلم. ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من التكيّف مع ما هو قائم، بل قدرة حقيقية على تخيّل ما يجب أن يكون. فالمواطن الذي نطمح إليه ليس من يسعى لإرضاء السلطة، بل ذاك الذي يربكها عندما تُخطئ، ويُواجهها عندما تنحرف، ويقترح البدائل عندما تعجز.
المواطنة الحقيقية لا تُبنى بالخوف، بل بالشجاعة. لا تُزهر في بيئة تقمع الأسئلة، بل في تربة تُخصّبها الحريات. ولهذا، لا بد أن نكفّ عن صناعة مواطن خاضع، ونبدأ في تمكين الإنسان الحر: القادر على التفكير، النقد، المواجهة، والتغيير. فالعالم لا يتغير بالأتباع، بل بأولئك الذين يُزعجون السائد ليصنعوا العادل.
🔹 من إعادة الترميم إلى ثورة الوعي
من إعادة الترميم إلى ثورة الوعي، تبرز الحاجة الملحّة إلى تجاوز الإصلاحات التقنية السطحية التي تُجمّل الواقع دون أن تغيّره في جوهره. نحن لا نفتقر إلى مشاريع أو برامج أو خطط، بل نفتقر إلى رؤية جديدة للإنسان، إلى ثورة عميقة تعيد صياغة تصورنا للمواطن، ليس ككائن يُطوَّع لخدمة المنظومة، بل كذات حرة، ناقدة، مبدعة، ومسؤولة.
في السياق المغربي، بل في كثير من المجتمعات المشابهة، يبدو أن المقاربات المتبعة لا تزال حبيسة منطق الترميم والتسكين. كلما ظهرت أزمة، يُطرح “حلّ تقني”، وكلما انكشف خلل، تُقترح “إصلاحات هيكلية”، لكنها في الغالب لا تمسّ جوهر الإشكال: الإنسان نفسه. نحن بحاجة إلى مشروع مجتمعي لا ينظر إلى الإنسان بوصفه وسيلة، أو مجرد عنصر في سوق الشغل، بل كغاية في ذاته، ككائن يجب أن نراهن عليه، نثق فيه، ونراكم حوله المعنى والمستقبل.
وتبدأ هذه الثورة من التعليم. لا يمكن لمجتمع أن يتحول جذريًا دون منظومة تعليمية تُحرّر العقل بدل أن تُلقّنه، تُشجّع التفكير النقدي بدل الحفظ، وتُعلّم الطفل كيف يسأل قبل أن تطلب منه أن يجيب. التعليم الذي يُنتج الانقياد هو تعليم يُصنّع مواطنين هشّين فكريًا، غير قادرين على اتخاذ القرار أو المساهمة في بناء البدائل. أما التعليم المحرّر، فهو وحده القادر على تخريج أجيال تؤمن بأن لها دورًا في صياغة الحاضر وتخيّل المستقبل.
وإذا كان التعليم هو البذرة، فإن الثقافة هي التربة التي تحتضن هذه البذرة وتمنحها ما تحتاج لتنمو وتثمر وعياً حياً. نحن لا نحتاج إلى ثقافة تُقدّس الخضوع وتُمجّد الامتثال، ولا إلى ثقافة تُروّج للتفاهة أو تركن إلى التقاليد والخرافات كمقدسات لا تُمس، بل إلى ثقافة تحتفي بالسؤال، تُعلّم التمرد الإيجابي الذي يبدأ من نقد الذات، وتُشجع الفرد على الشك الخلّاق بدل التصديق الأعمى. نحتاج إلى ثقافة تُذكّر الإنسان بأنه ليس كائناً سلبياً يتلقى الأوامر، بل فاعلاً مسؤولاً، يحمل رسالة في هذا الوجود، وأن التغيير الحقيقي لا يأتيه من الخارج، بل يبدأ من داخله، من لحظة وعيه بكرامته وقيمته وقدرته على التأثير.
أما السياسات الاجتماعية، فلا يجب أن تُختزل في مجرد إعانات ظرفية تُقدّم للفئات الهشة، بل يجب أن تهدف إلى كسر منطق الهشاشة من جذوره. المطلوب ليس فقط رعاية المحتاج، بل تمكينه. المطلوب ليس مجرد علاج الجرح، بل خلق بيئة تمنع تكراره. فحين يُزرع في الإنسان الشعور بقدرته على الخروج من الهشاشة، يصبح الدعم خطوة نحو الاستقلال لا أداة لإدامة التبعية. وهذا يستدعي تغييرًا جذريًا في منطق السياسة الاجتماعية: من الرعاية إلى التمكين، من التدخل الظرفي إلى بناء مسارات ذاتية للكرامة.
ولا يمكن إغفال الدور الحاسم للإعلام. الإعلام الذي يُخدّر الوعي، يُزيّف الواقع، ويُلهي الناس عن الأسئلة الكبرى، ليس إعلامًا بل أداة تطبيع. نحتاج إلى إعلام يُنير لا يُضلّل، يُحرّك لا يُجمّد، يُساهم في إنتاج وعي جمعي قادر على المساءلة، لا مجرد تكرار الخطاب الرسمي أو الانشغال بالفراغ. الإعلام الحقيقي هو الذي يجعل الإنسان يُفكر، يتفاعل، ويشكّل رأيًا مستقلًا لا مستوردًا.
ومن المفارقات التي يكشفها الواقع، أن الإنجاز المادي غالبًا ما يُغطي على الفقر الإنساني. نبني قطارات عالية السرعة، لكن وعي الركاب ما زال عالقًا في القرن الماضي. نُشيّد ملاعب ضخمة، بينما أطفال الأحياء الهامشية لا يجدون كرة يلعبون بها. هذه المفارقة تفضح اختلال الأولويات، وتُظهر بوضوح أن التنمية ليست مجرد عمران، بل بناء للإنسان. فالمجتمع الذي لا يراهن على الإنسان، يركض نحو التقدم بجسدٍ بلا روح.
الثورة التي نحتاجها اليوم ليست مجرد تغيير في الوجوه أو تعديل لبعض القوانين، بل هي ثورة أعمق بكثير، ثورة في كيفية رؤيتنا للإنسان ومكانته في المشروع الوطني. إنها ثورة في السلوكيات، في المناهج التعليمية، في الخطاب العام، في السياسات المتبعة، وفي بنية الوعي الجماعي ذاته. فلا يمكن أن نتحدث عن مغرب جديد أو عن مستقبل مزدهر، ما لم نُنتج إنسانًا يمتلك وعياً نقدياً حراً، وإحساساً راسخاً بكرامته، وقدرة حقيقية على المشاركة والإبداع، وعلى ممارسة التمرد الإيجابي الذي لا يهدم، بل يُعيد البناء على أسس أكثر عدلاً وإنسانية، لمغرب يستحقه الجميع.
لقد تعبنا من الترميم. آن الأوان لننتقل إلى ما هو أعمق: ثورة في الوعي تُعيد للإنسان مكانته المركزية في المشروع المجتمعي. فالمستقبل لا تصنعه البنايات، بل العقول. ولا تحققه السرعة، بل الرؤية. نحن بحاجة إلى إنسان لا يشتغل فقط، بل يُفكر. لا يستهلك فقط، بل يُنتج. لا يطيع فقط، بل يُغيّر. حينها فقط، يمكن أن نقول إننا بدأنا نخرج من الماضي، وندخل فعلاً إلى زمننا لبناء المستقبل الأفضل.
🔹 دروس من العالم : حين يصعد الإنسان، تصعد الأمة
حين يصعد الإنسان، تصعد الأمة، هذه ليست مجرد عبارة شاعرية، بل حقيقة تؤكدها تجارب شعوب نهضت من تحت الأنقاض، لا بفضل الثروات الطبيعية أو الصفقات الاقتصادية الكبرى، بل بفضل رهانها الجريء على الإنسان: على عقله، ووعيه، وكرامته، وقدرته على التغيير. ولعل من أكثر الدروس إلهامًا ما تقدّمه تجارب دول مثل كوريا الجنوبية، رواندا، فنلندا، وحتى تشيلي، رغم اختلاف السياقات والموارد والأنظمة. لكن القاسم المشترك بينها جميعًا أنها أدركت أن النهضة تبدأ من الداخل، من الإنسان أولًا، لا من الخارج.
كوريا الجنوبية لم تحقق معجزتها الاقتصادية ببناء الشركات فقط، بل بتأسيس عقل نقدي حرّ في مدارسها وجامعاتها. اختارت أن تبدأ من العقل قبل الآلة، من الفكرة قبل المصنع. التعليم هناك ليس مجرد وسيلة لإنتاج موظفين، بل مسار لصقل الإنسان القادر على الإبداع، والمبادرة، والانخراط في مشروع وطني يتجاوز الرغبة الفردية إلى الطموح الجماعي. رواندا، الخارجة من واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الحديث، رفضت أن تُعرّف نفسها بالمأساة. جعلت من المصالحة، وبناء الذات الوطنية، وتحقيق النموذج الاجتماعي العادل، مشروع دولة. دولة قررت ألا تعيش رهينة الماضي، بل أن تُعيد بناء الإنسان كأفق للمستقبل. أما فنلندا، فقد اختارت أن تجعل من التعليم رهان كرامة. لم تتعامل معه كبرنامج إصلاحي عابر، بل كجوهر السيادة نفسها. المدرسة هناك ليست مؤسسة تلقين، بل فضاء لبناء الإنسان المستقل، الحر، الواثق، والمسؤول.
هذه النماذج، رغم تباين السياقات السياسية والثقافية والاقتصادية، تشترك في فلسفة واحدة: لا نهوض دون إنسان واعٍ، حر، ومُمكَّن. وهي فلسفة تُعلّمنا أن الاستثمار الحقيقي ليس في الإسمنت، ولا في الأبراج، ولا حتى في الصفقات الكبرى، بل في الإنسان. فإذا صعد الإنسان، صعدت معه الأمة. وإذا أُهين أو أُقصي أو تم تجفيف منابع وعيه، تهاوت الأمة مهما بدا مظهرها الخارجي مزدهرًا.
لكن المفارقة المؤلمة أن المغرب، برغم كل ما يمتلكه من إمكانات بشرية، لا يزال بعيدًا عن هذا الرهان. ليس لأنه يفتقر إلى الموارد، بل لأنه يفتقر إلى الخيال السياسي والتربوي. الإنسان المغربي أثبت في أكثر من مناسبة، أنه قادر على الإنجاز، والابتكار، وتحقيق التميز. نراه يتألق في الرياضة، في المهجر، في ريادة الأعمال، وفي الأوساط العلمية الدولية. لكنه في الداخل، يجد نفسه محاصرًا بمنظومة تعليمية تقليدية تُجهض طموحه منذ المراحل الأولى، وبنظام إداري ثقيل يُعطّل المبادرة، وبإعلام يُفرغ القضايا من مضمونها، وبسياسات تُقنّن الفشل وتُسوّق الرداءة كواقع لا بد منه.
الأدهى أن هناك هدرًا مستمرًا للطاقة الوطنية. كل شاب يهاجر بحثًا عن كرامته، كل باحث يُقصى من الجامعة لأنه غير منسجم مع الولاء السياسي، كل مبادرة شبابية تُجهض لأنها لا تمر عبر قنوات الزبونية، هو دليل إضافي على أننا نمتلك الكفاءات، لكننا لا نمتلك الإرادة السياسية والثقافية لإطلاق طاقاتها. الإنسان المغربي ليس مشكلة، بل هو مشروع معطّل، مع سبق الإصرار.
إن الخلل ليس في الفرد المغربي، بل في المنظومة التي تتعامل معه بريبة، وكأنها تخاف من وعيه، من نقده، من مبادرته. تُطالبه بالامتثال لا بالمشاركة، بالسكوت لا بالاقتراح، بالنجاح الفردي لا بالمساهمة الجماعية. والنتيجة مجتمع يتحرك ببطء، تتآكله اللامبالاة، وتُهدده موجات السخط الصامت، لأن الإنسان فيه يشعر أنه مُراقَب أكثر مما هو مُحتضَن، وأن الوطن لا يبادله الثقة بالثقة.
لذلك، فالدرس الأهم الذي تقدمه لنا تجارب الشعوب الناهضة هو أن الطريق إلى التنمية لا يمر فقط عبر الاستثمارات والبنيات التحتية، بل عبر ثورة في طريقة النظر إلى المواطن. نحتاج إلى أن نحرر الإنسان المغربي من قيد التهميش، من إسكات صوته، ومن كسر ثقته بذاته وبمؤسساته. نحتاج إلى مشروع وطني لا يُراهن على الولاءات، بل على الكفاءات. لا يُدار بمنطق الخوف، بل بمنطق الأمل والمشاركة والتمكين.
فهل يستطيع المغرب أن يستخلص العِبر من هذه التجارب بصدق، لا لمجرد الاستعراض الإعلامي؟ هل يمكننا أن نتجاوز الاقتباس السطحي لنماذج الآخرين، نحو التعمق في جوهر فلسفتهم التنموية؟ أن نتحرر من منطق النسخ والتقليد، لننتقل إلى استلهام الروح التي صنعت تحوّلهم؟ عندها فقط، لن نظل مجرد مشاهدين لصعود دول أخرى، بل سنصبح فاعلين في مسار نهوض حقيقي، لأن الإنسان فينا سيكون قد نهض أولاً.
ولتحقيق ذلك، لا بد من نخبة مختلفة: نخبة واعية، مسؤولة، ومؤمنة بواجبها الأخلاقي تجاه الوطن والإنسان، نخبة تضع المشروع المجتمعي في قلب أولوياتها، لا مصالحها الشخصية أو الفئوية.
🔹 أي نخبة لقيادة مشروع “إعادة بناء الإنسان”؟
إن الحديث عن مشروع “إعادة بناء الإنسان” لا يُمكن أن يُؤخذ على محمل الجد ما لم يُطرح معه سؤال حاسم: أي نخبة نحتاج لقيادة هذا المشروع؟ فالمشاريع الكبرى لا تصنعها النوايا الطيبة ولا تُفعّلها البيروقراطيات المعتادة، بل تتطلب قيادة فكرية وروحية وثقافية تتجاوز منطق الإدارة التقنية إلى أفق الرؤية الحضارية. الإنسان لا يُعاد بناؤه فقط بالمناهج والخطط، بل بمن يُفكر فيها، بمن يُجسّدها، بمن يملك الجرأة على مساءلة المسلمات وتفكيك البُنى الذهنية التي كبّلته.
إ نحن اليوم أمام مفارقة موجعة: نُعلن، بخطاب متكرّر، حاجتنا إلى مشروع مجتمعي جديد، في وقت ما تزال فيه أغلب نخبنا أسيرة أنماط تفكير متقادمة، متمركزة حول ذاتها، تفتقر للقدرة على الإلهام والتجديد. ورغم وجود بعض الفعاليات الفردية الصادقة، التي تُثبت إخلاصها للوطن وصدق نواياها تجاه المواطن، فإنها غالبًا ما تبقى معزولة، تُحاصرها قوى التقليد والتهميش.
في هذا السياق، يصبح الحديث عن “نهضة الإنسان” في ظل نخبة تُعيد إنتاج الرداءة، وتصرف جهدها في التموقع والصراعات الهامشية بدل الانخراط في صناعة المعنى، مجرد خطاب بلا جدوى. فالأغلبية من هذه النخبة ترى في السياسة سوقًا للمنافع لا فضاءً لبناء الثقة، وفي الثقافة ترفًا هامشيًا بدل أن تعترف بها كمحرّك حقيقي لأي تحوّل اجتماعي عميق.
وهكذا، تظل مشاريع “الإصلاح” تدور في الفراغ، لأنها تُدار بعقليات لم تُراجع ذاتها، ولم تخضع لنقد جذري لدورها ووظيفتها في المجتمع. إن الإصلاح لا يمكن أن يكون ثمرة لنخب تخشى المساءلة، أو تنظر إلى التغيير كتهديد لمصالحها، لا كفرصة لإعادة بناء وطن أكثر عدالة وكرامة.
ولذلك، فإعادة بناء الإنسان تقتضي أولًا إعادة تشكيل النخبة. نحتاج إلى نخب فكرية جديدة تعيد تعريف مفهوم “الوطنية”، لا بوصفها انتماءً شعاراتيًا، بل التزامًا أخلاقيًا وعمليًا بمصير الإنسان في هذا الوطن. وطنية تُنظَر إلى المواطن لا كرقم في معادلة انتخابية، بل كغاية بحد ذاته، كقيمة عليا يجب أن تُصان وتُغذّى بالكرامة والحرية والوعي. نخب لا تُقيس نجاحها بعدد الظهور الإعلامي، بل بمدى قدرتها على إحداث أثر عميق في الثقافة العامة، في الخطاب السياسي، في الفكر الجماعي.
نحن بحاجة إلى قيادات شابة تمارس السياسة كفن لبناء الأمل، لا كمهنة للتموقع والانتهازية. شباب مشبع برؤية تضع الإنسان في صلب المشروع، لا يرى في العمل العام غنيمة تُقتسم، بل مسؤولية تُحمَل. فعندما يُمنح هذا الشباب الفضاء الحقيقي والدور الفعلي، يُفكّر بمنطق البناء لا المكاسب، بمنطق المستقبل لا التحايل على الحاضر.
لأن من لم يتورط بعدُ في شبكات المصالح الضيقة، يظل أكثر قدرة على الصراحة، على الحلم، وعلى الإبداع الجريء خارج الصيغ الجاهزة. المطلوب اليوم ليس مجرد إشراك رمزي للشباب داخل المؤسسات، بل الاعتراف الجاد بأن مستقبل الوطن يُبنى من القاعدة، لا من القمة، وأن هذا البناء يجب أن ينطلق من الإنسان ذاته، من إشراكه في صياغة الرؤية، لا فقط في تنفيذ قرارات جاهزة لا تعكس روحه ولا طموحه.
ومن جهة أخرى، لا يمكن لأي مشروع يروم إعادة بناء الإنسان أن يُكتب له النجاح دون إشراك فعلي للمفكرين، والخبراء الاستراتيجيين والتربويين، والمثقفين، والفنانين. فالإبداع ليس عنصراً تجميلياً يُضاف في المراحل الأخيرة، بل هو في عمق العملية التنموية وجوهرها. فالتجارب العالمية التي صنعت نهضات حقيقية لم تكتفِ بتحسين المؤشرات الاقتصادية أو تحديث البنى التحتية، بل سبقتها ثورات في الوعي، بتحرير الخيال الجماعي، وبنشر ثقافة تُعلي من شأن السؤال لا الخضوع، تحفّز الإحساس لا تُخدره، وتنتج الجمال كقيمة إنسانية لا كترف بصري.
الفن، كما الفكر، هو أداة للمقاومة مثلما هو أداة للبناء. حين يغيب البُعد الثقافي والفكري عن أي مشروع تنموي، يُعاد إنتاج الإنسان ككائن نافع وظيفيًا، لا كذات حرّة خلاقة. وهذا هو الفشل الحقيقي: أن نُشيّد كل شيء، ونفقد الإنسان.
لذلك، فإن الحديث عن تغيير جذري يصبح بلا مضمون إذا لم يكن مؤطَّرًا بعقول مبدعة قادرة على العمل خارج القوالب. فالقوالب هي ما نسعى لتفكيكه: البيروقراطيات العقيمة التي لا تفكر، الأحزاب التي لا تحلم، المؤسسات التي تخشى النقد، النخب التي تخاف من الضوء الحقيقي.
نحن لا نحتاج إلى نخب تُجيد حفظ التوازنات الهشّة، بل إلى نخب تجرؤ على الإخلال بها لتصنع توازنًا جديدًا أكثر عدلاً وصدقًا. لا نحتاج إلى مَن يُردّد ما قيل مرارًا، بل إلى مَن يملك الشجاعة لقول ما لم يُقل بعد.
إن إعادة بناء الإنسان ليست ورشة تقنية، بل مشروع حضاري طويل النفس، يتطلب قيادات من نوع خاص: تؤمن بأن التنمية تبدأ من الوعي، بأن السياسة فعل ثقافي، وبأن الثقافة هي روح السياسة. نحتاج إلى من يتقن العمل بصمت، لكنه يُحدث أثرًا صاخبًا. إلى من لا يبحث عن الوجاهة، بل عن الجدوى. إلى من يرى في كل إنسان مشروعًا كاملاً لا مجرد وسيلة. فقط بهؤلاء، يمكن أن تتحول النخبة من مشكلة إلى حل، من عبء إلى أفق. وفقط حين تتغير النخبة، يُمكن أن يبدأ المشروع الحقيقي لإعادة بناء الإنسان المغربي: حرًا، واعيًا، وفاعلاً في زمنه
ما نحن في أمسّ الحاجة إليه اليوم ليس مزيدًا من التقارير الباردة، المصاغة بلغة خشبية تُزيّن الأزمة بأرقام صمّاء، ولا إلى خطابات مكررة تُراكم الأوهام وتُخدّر الوعي بدل أن تفتح كوة أمل في جدار الإحباط. ما نحتاجه، حقًا وبإلحاح، هو ميثاق وطني حيّ، يُعيد الاعتبار للإنسان لا كشعار، بل كقضية، كهدف، كمعيار لأي سياسة أو مشروع.
ميثاق لا يُكتب خلف الكواليس المغلقة، بل يُستمد من نبض الشارع، من أوجاع الناس، من شقاء الأمهات، ومن تطلعات شباب لم يعد يصدّق الوعود المؤجلة. ميثاق ينبثق من صرخة التلميذ في المدرسة العمومية، ومن خيبة المثقف المُهمَّش، ومن مرارة الشاب الذي يرى في الهجرة خلاصًا، لا خيارًا.
إن اللحظة التاريخية التي نمر بها تقتضي جرأة جذرية، لا ترقيعات شكلية. فقد جُرّبت كل المقاربات “المُسكّنة”، تلك التي تُلامس أطراف الجرح دون أن تجرؤ على النزول إلى العمق. جُرّبت “إصلاحات” تُرضي مراكز القرار وتُروَّج على أنها تقدم، وهي في الحقيقة ليست سوى أدوات لتأجيل الانفجار، لا لنزع أسبابه.
وقد آن الأوان لأن نتوقف عن الهروب من السؤال الجوهري، الذي تهرب منه الدولة كما يتهرب منه المجتمع: من هو المواطن المغربي الذي نريده؟
هل نريده مجرّد كائن مطيع، يُدمَج بصمت في منظومة لا تعترف بكرامته ولا بصوته؟
هل نريده رقمًا في سوق الشغل، ورقة انتخابية تُستدعى عند الحاجة، ثم تُركن على الرفّ؟
أم نريده إنسانًا حرًا، فاعلًا، ناقدًا، يمتلك وعيه، وكرامته، وحقه في أن يُسائل، ويقترح، ويبني؟
هذا السؤال لم يعُد من الممكن تأجيله، لأنه أساس كل شيء. فكل مشروع تنموي، مهما بلغت دقة خططه وجاذبية شعاراته، يبقى مشروعًا ناقصًا ومعطوبًا، ما لم يُجب بوضوح على هذا السؤال.
إنه ليس سؤالًا فلسفيًا أو تنظيريًا، بل سؤال مصير: من دون إنسان حر، لا تنمية حقيقية، ولا استقرار دائم، ولا مستقبل يستحق أن نؤمن به.
فلنُعلنها بصفاء الرؤية وصدق المبادئ: لا تنمية حقيقية بدون إنسان جديد.
والمقصود ليس إنسانًا يُعاد تشكيله كأنّه هو الخلل، بل إنسان يُحرَّر من كل ما كبّل وعيه، وقزّم أحلامه، وأفرغه من صوته، وزعزع ثقته في قدرته على الفعل والتأثير. الإنسان هو الأصل، لا العائق؛ هو النواة، لا الحاشية.
لا يُبنى مغرب عادل، قوي ومتوازن، ما دام المواطن يُعامل كوصيف دائم في وطنه، يُشكّ في حكمه، ويُقصى من قرارات مصيرية تُتّخذ باسمه، ثم يُنتظر منه أن يُصفّق، لا أن يُفكر، أن يُنفّذ، لا أن يُسائل.
نريد إنسانًا شريكًا لا تابعًا، خالقًا للمعنى لا حارسًا له، ممتلئًا بالكرامة لا مثقلًا بالولاء الفارغ.
لهذا، فإن مستقبل المغرب يبدأ من ثورة فكرية هادئة وعميقة. فكر يعيد تعريف السياسة لا كأداة للهيمنة، بل كفن لخدمة الإنسان والارتقاء به. فكر يُحرّر الخطاب العمومي من لغة التبرير، ويستبدل منطق الأعذار بمنطق المسؤولية. نحن بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة تؤمن أن النقد شرف، لا خيانة، وأن الاختلاف وقود للنهضة، لا تهديد لوحدة الوطن.
ولا نهوض دون كرامة، لا كرامة بدون احترام الإنسان، في مدرسته، في مشفاه، في إدارته، في هامش مدينته. الكرامة لا تعني فقط أن يتحسّن دخله، بل أن تُصان إنسانيته في كل لحظة من يومه. أن يشعر أن صوته مسموع، وأن حياته ليست تفصيلًا في مخططات لم يُستشر فيها، بل أولوية حقيقية.
وإذا كان المغرب يطمح عن حق إلى أن يكون قوة إقليمية صاعدة، فعليه أن يتبنّى المعادلة الأقدم والأصدق في تاريخ الدول:
ابنِ الإنسان، تبنِ الدولة. حرّر الوعي، تحقّق التنمية. ازرع الكرامة، تجنِ الاستقرار.
فلا تنمية مستدامة دون عقول متحررة من الخوف، ولا مواطنة صادقة دون ضمائر متصالحة مع ذاتها، ولا ديمقراطية حقيقية دون مواطنين يُدركون أنهم شركاء في القرار، لا منفذون صامتون.
من هنا، ومن منطلق المسؤولية الصادقة، وبنزاهة تتجرد من كل حسابات الذات، ومن حب عميق لهذا الوطن، وبوعي حيّ ومتجذّر في الواقع والتاريخ، فلنُعلن بوضوح: ورشة إعادة بناء الإنسان المغربي ليست ترفًا ولا خيارًا مؤجلًا، بل قدر تاريخي، لا نهوض ممكنًا من دونه.
لم نعد بحاجة إلى مشاريع اقتصادية ضخمة تُخدّر الضمير وتُقصي الإنسان عن صلب الغايات.
لم نعد نرغب في بنى تحتية مبهرة، يقف عليها مواطن مكسور من الداخل، فاقد للمعنى والانتماء.
لا نريد تسويقًا وهميًا للتقدم، بل نريد ترجمة صادقة تُقاس بكرامة المواطن، لا بإعجاب الزائر.
اللحظة تتطلب شجاعة النظر في العمق: الإنسان أولًا، والإنسان أخيرًا.
أما ما عداه، وإن بدا كبيرًا، فهو تفاصيل… لا تصنع التاريخ وحدها.