كتاب الرأي

محاكم‭ ‬التفتيش.....‮ من‭ ‬جزيرة‭ ‬الذكور‭ ‬إلى‭ ‬الـملعون


لم‭ ‬يتعود‭ ‬المغاربة‭ ‬على‭ ‬سماع‭ ‬أحكام‭ ‬قضائية‭ ‬تهم‭ ‬سجن‭ ‬الكتاب‭ ‬والأدباء ،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬على‭ ‬القضاء‭ ‬المغربي‭ ‬التورط‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬مثل‭ ‬هاته ،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬انزلاقات‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬أحكام‭ ‬قضائية‭ ‬غريبة ،‭ ‬لكن‭ ‬الأغرب‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬قضايا‭ ‬رأي‭ ‬عام‭ ‬ولم‭ ‬تثر‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬نقاشات‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع ،‭ ‬آخر‭ ‬تلك‭ ‬الأحكام‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬صدر‭ ‬قبل‭ ‬شهر‭ ‬عن‭ ‬إحدى‭ ‬محاكم‭ ‬الدارالبيضاء‭ ‬والتي‭ ‬قضت‭ ‬بأربعة‭ ‬أشهر‭ ‬سجنا‭ ‬موقوف‭ ‬التنفيذ‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬كاتب‭ ‬رواية‭ ‬“الملعون”‭ (‬توجد‭ ‬قيد‭ ‬الطبع‭)‬ ،‭ ‬وبغرامة‭ ‬مالية‭ ‬تبلغ‭ ‬80‭ ‬ألف‭ ‬درهم‭. ‬تتحدث‭ ‬الرواية‭ ‬عن‭ ‬أحداث‭ ‬ووقائع‭ ‬عرفتها‭ ‬منطقة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬جبال‭ ‬الأطلس‭ ‬تدعى‭ ‬“دوار‭ ‬النصراني”‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬تاريخية‭ ‬سابقة ،‭ ‬صاحب‭ ‬الرواية‭ ‬كان‭ ‬ينشر‭ ‬مقتطفات‭ ‬من‭ ‬روايته‭ ‬على‭ ‬حساباته‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أثار‭ ‬فضول‭ ‬أحدهم‭ ‬فتقدم‭ ‬بشكاية‭ ‬ضد‭ ‬الكاتب‭ ‬لأنه‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬معني‭ ‬بما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬وذلك‭ ‬لأنه‭ ‬بالصدفة‭ ‬يقطن‭ ‬حيا‭ ‬بالدارالبيضاء‭ ‬يدعى‭ ‬“ديور‭ ‬النصراني”‭ ‬حيث‭ ‬اعتبر‭ ‬أنه‭ ‬ضحية‭ ‬تشهير،‭ ‬دفاع‭ ‬الكاتب‭ ‬تقدم‭ ‬أمام‭ ‬المحكمة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يثبت‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بمجرد‭ ‬عمل‭ ‬أدبي‭ ‬تخييلي،‭ ‬لكن‭ ‬المحكمة‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬رأي‭ ‬آخر ‭.‬



بقلم‭: ‬ عادل‭ ‬بن‭ ‬حمزة

‭ ‬قضية‭ ‬رواية‭ ‬“الملعون”‭ ‬تذكرنا‭ ‬بقضة‭ ‬مماثلة‭ ‬تتعلق‭ ‬برواية‭ ‬“جزيرة‭ ‬الذكور”‭ ‬ففي‭ ‬2‭ ‬غشت‭ ‬2016‭ ‬كانت‭ ‬المحكمة‭ ‬الابتدائية‭ ‬بورززات‭ ‬قد‭ ‬قضت‭ ‬بحكم‭ ‬شكل‭ ‬سابقة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬القضاء‭ ‬المغربي،‭ ‬يقضي‭ ‬بالسجن‭ ‬موقوف‭ ‬التنفيذ‭ ‬على‭ ‬الروائي‭ ‬الراحل‭ ‬عزيز‭ ‬بنحدوش‭ ‬لمدة‭ ‬شهرين‭ ‬مع‭ ‬غرامة‭ ‬مالية‭ ‬تبلغ‭ ‬1000‭ ‬درهم‭ ‬وتعويض‭ ‬للجهة‭ ‬المشتكية‭ ‬يبلغ‭ ‬20‭ ‬ألف‭ ‬درهم ‭.‬

 

تهمة‭ ‬عزيز‭ ‬بنحدوش‭ ‬كانت‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬تحمل‭ ‬عنوان‭ ‬“جزيرة‭ ‬الذكور” ،‭ ‬ولأنها‭ ‬رواية‭ ‬فقد‭ ‬تضمنت‭ ‬أحداث‭ ‬وأماكن‭ ‬وأشخاص،‭ ‬وشكلت‭ ‬بعض‭ ‬الوقائع‭ ‬والأحداث‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬“تازناخت”‭ ‬مادتها‭ ‬الخام‭ ‬صاغها‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬أدبي‭ ‬حاول‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬مقاربة‭ ‬ظاهرة‭ ‬لفتت‭ ‬نظره‭ ‬تتعلق‭ ‬ب‭ ‬“الأطفال‭ ‬الأشباح”‭. ‬ بالطبع‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬بفيلم‭ ‬رعب ،‭ ‬ولكن‭ ‬بظاهرة‭ ‬يقول‭ ‬الراحل‭ ‬بنحدوش‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬سائدة‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬المنطقة‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬في‭ ‬الخارج ،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬إضافة‭ ‬أبناء‭ ‬الغير‭ ‬إلى‭ ‬دفتر‭ ‬الحالة‭ ‬المدنية‭ ‬للمهاجر ،‭ ‬وذلك‭ ‬ليرفع‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬التعويضات‭ ‬العائلية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يحصل‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الإقامة‭.. ‬ وبالطبع‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتتم‭ ‬لولا‭ ‬سيادة‭ ‬الرشوة‭ ‬والفساد‭ ‬والتلاعب‭ ‬في‭ ‬سجلات‭ ‬الحالة‭ ‬المدنية ‭.‬

 

شخصان‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬المنطقة‭ ‬اعتبرا‭ ‬نفسيهما‭ ‬مقصودان‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬بنص‭ ‬الرواية‭ ‬والوقائع‭ ‬التي‭ ‬تتضمنها ،‭ ‬واعتبرا‭ ‬عبر‭ ‬دفاعهما،‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬يعد‭ ‬قذفا‭ ‬وسبا‭ ‬في‭ ‬حقهما،‭ ‬وطالبا‭ ‬من‭ ‬محكمة‭ ‬ورززات‭ ‬متابعة‭ ‬كاتب‭ ‬الرواية‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتضمنه‭ ‬قانون‭ ‬الصحافة‭ ‬المغربي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة ‭.‬

 

المصيبة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬المحكمة‭ ‬عوض‭ ‬أن‭ ‬ترفض‭ ‬قبول‭ ‬الدعوة‭ ‬لأن‭ ‬أساسها‭ ‬كله‭ ‬باطل،‭ ‬ولأن‭ ‬“جزيرة‭ ‬الذكور”‭ ‬نص‭ ‬روائي‭ ‬وليس‭ ‬مقالا‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬أو‭ ‬موقع‭ ‬إلكتروني ،‭ ‬ولأن‭ ‬عزيز‭ ‬بنحدوش‭ ‬روائي‭ ‬وليس‭ ‬صحافي ،‭ ‬ولأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بمحاسبة‭ ‬الروائي‭ ‬وتقييم‭ ‬عمله‭ ‬يعود‭ ‬للنقاد‭ ‬والقراء‭ ‬وحدهم‭ ‬وأن‭ ‬القضاة‭ ‬لا‭ ‬موقع‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬هكذا‭ ‬قضايا‭ ‬أو‭ ‬سجالات‭ . ‬فإن‭ ‬المحكمة ،‭ ‬وعلى‭ ‬عكس‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ذكر ،‭ ‬قبلت‭ ‬الدعوة‭ ‬وأخضعت‭ ‬عملا‭ ‬روائيا‭ ‬تخييليا ،‭ ‬لقانون‭ ‬الصحافة‭. ‬بل‭ ‬لم‭ ‬تكتف‭ ‬بكل‭ ‬ذلك ،‭ ‬فاختارت‭ ‬أسوء‭ ‬الأحكام ،‭ ‬والقاضية‭ ‬بسجن‭ ‬الكاتب،‭ ‬ذنبه‭ ‬الوحيد‭ ‬أنه‭ ‬“اقترف”‭ ‬الكتابة‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬“جزيرة‭ ‬الذكور”‭ ‬كفضاء‭ ‬متخيل ،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬وجود‭ ‬محاكم‭ ‬للتفتيش‭ ‬تعود‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬عصور‭ ‬الظلمات‭ ‬والجهل ‭.‬

 

عندما‭ ‬قررت‭ ‬الكنيسة‭ ‬محاكمة‭ ‬جاليليو‭ ‬الفيزيائي‭ ‬الشهير‭ ‬سنة‭ ‬1611م ،‭ ‬لأنه‭ ‬تجرأ‭ ‬في‭ ‬إثبات‭ ‬أن‭ ‬الشمس‭ ‬هي‭ ‬مركز‭ ‬الكون‭ ‬وأن‭ ‬الأرض‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬الشمس‭ ‬وليس‭ ‬العكس ،‭ ‬قال‭ ‬جاليليو‭ ‬“ياليتني‭ ‬أحرقت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭ ‬بيدي‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أشهد‭ ‬يوم‭ ‬محاكمتي‭ ‬هذا”‭ . ‬لم‭ ‬يكتف‭ ‬جاليليو‭ ‬بذلك‭ ‬وهو‭ ‬رجل‭ ‬عجوز‭ ‬فاق‭ ‬السبعين‭ ‬عاما ،‭ ‬وما‭ ‬عاد‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬الإذلال‭ ‬والعقاب‭ ‬من‭ ‬زعماء‭ ‬دين‭ ‬جاهلين‭ ‬ومتعصبين ،‭ ‬بل‭ ‬أعلن‭ ‬“توبته”‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬بحثه‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬السنين ،‭ ‬فقال‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬يأس‭ ‬العلم‭ ‬أمام‭ ‬الخرافة‭ ‬والجهل‭ : ‬“أنا‭ ‬المدعو‭ ‬جاليليو‭ ‬جاليلي‭ ‬أقسم‭ ‬إنني‭ ‬آمنت‭ ‬بكل‭ ‬معتقدات‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬الرسولية‭ ‬بروما‭...‬وسأؤمن‭ ‬مستقبلا‭ ‬بكل‭ ‬تعاليمها‭ ‬وما‭ ‬تبشر‭ ‬به‭ ‬وأعلن‭ ‬ندمي‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬الأفكار‭ ‬والهرطقات‭ ‬التي‭ ‬أدليت‭ ‬بها‭ ‬مسبقا‭... ‬وعن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬اقترفته‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الكنيسة‭... ‬وأقسم‭ ‬ألا‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأفعال‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭... ‬وأن‭ ‬أشهد‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬الهيئة‭ ‬المقدسة‭ ‬ضد‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬يقترف‭ ‬فعل‭ ‬الهرطقة‭ ‬أو‭ ‬المساس‭ ‬بمعتقدات‭ ‬الكنيسة‭ ‬فور‭ ‬علمي‭ ‬بذلك” ‭. ‬هكذا‭ ‬أنهى‭ ‬جاليليو‭ ‬الموضوع‭ ‬بكل‭ ‬بساطة ‭.‬
 

‭ ‬عزيز‭ ‬بنحدوش‭ ‬لم‭ ‬تهزمه‭ ‬المحاكمة‭ ‬ولم‭ ‬يقرر‭  ‬“التوبة”‭ ‬بل‭ ‬أعلن‭ ‬أنه‭ ‬يستعد‭ ‬لإصدار‭ ‬عمل‭ ‬روائي‭ ‬جديد،‭ ‬لكن‭ ‬الموت‭ ‬كان‭ ‬أقرب‭ ‬له ‭.‬

فهل‭ ‬بعد‭ ‬قضيتي‭ ‬“جزيرة‭ ‬الذكور”‭ ‬و”الملعون”‭  ‬سنسمع‭ ‬عن‭ ‬تحقيق‭ ‬مركزي‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬العدل‭ ‬المغربية‭ ‬يوقف‭ ‬هذا‭ ‬النزيف‭ ‬وهذه‭ ‬الأحكام‭ ‬التي‭ ‬تثير‭ ‬السخرية‭ ‬وتضحك‭ ‬علينا‭ ‬العالم؟

المصدر : جريدة العلم الورقية ( العلم الأسبوعي من 26 ماي إلى 1 يونيو)


سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الجمعة 26 ماي 2023
في نفس الركن