بقلم : عدنان بنشقرون
لا تدور المعركة بين الصحفيين والمضللين فحسب، بل هي صراع معرفي يحدث داخل دماغنا. في عصر تتدفق فيه الأخبار بسرعة تفوق قدرتنا على التدقيق، يصبح من السهل الانجرار وراء المعلومات الكاذبة. لفهم هذا، يجب إدراك أن الأخبار الزائفة ليست مجرد خطأ، بل أداة نفسية تستغل طريقة تفكيرنا.
الدماغ يبحث عن الانسجام، لا عن الحقيقة
يختار دماغنا المعلومات التي تتوافق مع معتقداتنا السابقة، حتى لو كانت خاطئة. كل خبر زائف فعّال يستغل هذا الميل، فهو لا يخلق فكرة جديدة، بل يوقظ معتقدات كامنة. وعندما نقرأ شيئًا يتوافق مع توقعاتنا، نشعر بالمتعة العصبية، ما يجعلنا نفضل السرعة على التحقق البطيء.
تعتمد الأخبار الزائفة أيضًا على ميلنا لتفسير الأمور بطريقة بسيطة: إذا حدث خطأ ما، غالبًا ما نبحث عن مؤامرة أو عدو، بدل مواجهة التعقيد الواقعي.
العاطفة تُعزز انتشار الأكاذيب
يلعب الجانب العاطفي دورًا رئيسيًا في كيفية تعاملنا مع المعلومات. نشارك الأخبار التي تثير غضبنا أو خوفنا أو دهشتنا، بدون تدقيق، وبذلك نغذي وهم صدقها. كلما انتشرت المعلومة الكاذبة أكثر، صارت تبدو أكثر واقعية.
يستغل ناشرو الأخبار الزائفة الغضب والخوف والحنين والأمل؛ فهي أدوات قوية للتأثير، وتفوق في تأثيرها التقارير الطويلة الدقيقة. لذلك تصبح المعركة ليست بالأدلة، بل بالمشاعر.
التعرض الزائد للمعلومات يسهّل الأخطاء
نتعرض يوميًا لتدفق هائل من المعلومات، فنمسح المحتوى سريعًا ونستخلص استنتاجات قبل التحقق. يحمي الدماغ طاقته عبر التبسيط والفرز، لكن ذلك يقتل الفروق الدقيقة. كما يوضح عالم النفس دانيال كانيمان، يهيمن التفكير السريع على التحليلي، وهو مثالي للهروب من الخطر، لكنه كارثي للتحقق من صحة الأخبار.
تسهل هذه الطبيعة انتشار الأخبار الزائفة، فهي قصيرة، سهلة التذكر، ومبنية كسرد قصصي. والإنسان بطبيعته يحب السرد ويستجيب له بسهولة.
فقدان مكانة المصادر التقليدية
قد كانت الصحافة سابقًا مرشحًا للمعلومات، لكن اليوم أصبح كل شخص قادرًا على النشر. لم يعد دماغنا يميز بسهولة بين ما ينتجه خبير وما يقدمه مؤثر على وسائل التواصل. الثقة صارت عاطفية وشخصية أكثر من كونها عقلانية. غالبًا نسأل: «هل أحب هذه الشخصية؟ هل تشبهني؟» بدل «من قال هذا؟». وهكذا تنتشر الأخبار الزائفة لأنها تبدل السلطة التقليدية بالقرب النفسي.
كيف يمكن مواجهة هذا التحدي؟
يمكن تحويل نفس الآليات التي تستغلها الأخبار الزائفة لصالح الحقيقة:
سرد الأخبار بطريقة قصصية تجعل المعلومات جذابة وملهمة.
تقديم السياق بوضوح دون غرق القارئ في التعقيد، ليصبح الفهم ممكنًا دون التضحية بالدقة.
استغلال العواطف الإيجابية مثل الدهشة والوعي بدلاً من الخوف، لإيصال الحقيقة بشكل أقوى.
بناء الثقة من خلال الشفافية والمصداقية، وعرض كيفية جمع المعلومات، ليس مجرد النتائج.
التعليم بأسلوب معتدل وواعي، مع الاعتراف بمخاطر الانجرار وراء المعلومات الخاطئة وشرح الحقائق بهدوء.
التعايش مع الشك جزء من الحل
لا يمكن حماية النفس تمامًا من الأخبار الزائفة، لكن يمكن تدريب العقل على الشك الذكي. قبول أن الخداع ممكن ليس ضعفًا، بل خطوة نحو الوعي والانتباه. الدماغ مصمم أصلاً ليثق أولًا، وهذه الثقة كانت ضرورية لبقاء البشر في الماضي، واليوم يجب إعادة توجيهها لصالح الحقيقة.
قواعد جديدة لإيصال الحقيقة
مستقبل الصحافة لن يقوم على التوبيخ والخطب التحذيرية، بل على:
أسلوب سردي حي
صيغ مناسبة لعقل مشبع بالمعلومات
سرد يعلم دون تبسيط مخل
مراعاة العاطفة
دمج الأدلة ضمن السرد
استغلال الانحيازات المعرفية نفسها التي تستغلها الأخبار الزائفة
لن تنتصر الحقيقة لمجرد كونها صحيحة، بل عندما تصبح جذابة، سهلة المشاركة، وسهلة التذكر. طالما ظلت باردة، ستخسر أمام الأكاذيب التي تثير المشاعر.
الذكاء الاصطناعي وتحدي الصحافة المعاصرة
يغير الذكاء الاصطناعي المشهد الإعلامي، لكنه يزيد أيضًا صعوبة التحقق من الأخبار، فالأخبار الزائفة المنتجة خوارزميًا تنتشر بسرعة هائلة. كما يتوقع الجمهور محتوى مخصصًا أكثر، مما يرفع من صعوبة التوازن بين المعايير الأخلاقية وسرعة النشر.
يجب على الصحفيين اليوم أن يصبحوا خبراء في التقنية والتحليل، كي يواجهوا كم المعلومات وسرعتها دون الانغماس في الفوضى