بقلم: الكاتب والإعلامي عبدالعزيز كوكاس
وُلد الفيلم من رحم أزمة هوليوود في مطلع السبعينيات
لقد وُلد الفيلم من رحم أزمة هوليوود في مطلع السبعينيات: انكسار نظام الاستوديوهات الكلاسيكية مع صعود جيل جديد من المخرجين الذين تمردوا على الصنعة السينمائية (سكورسيزي، كوبولا، دي بالما)، وتراجع الجمهور أمام الإغراء المتزايد للتلفزيون.
في هذا الفراغ، وجد كوبولا ـ ابن المهاجرين الإيطاليين الذي كان في الثلاثين من عمره ـ نفسه مكلفاً بمشروع رفضه كبار المخرجين، راقبه استوديو باراماونت بصرامة لأنه كان يشك في نجاح الفيلم.
تحوّل المشروع الذي نظر إليه الاستوديو كفيلم تجاري إلى تراجيديا كونية. فما بدا في ظاهره حكاية جريمة، اتضح في جوهره أنه ملحمة عن الإنسان حين يصبح أسيرا لعائلته ولقانونه السريّ، عن السلطة حين تتلبّس ثوب الأب، وعن الخلاص الذي لا يُمنح إلا عبر الخطيئة.
ومنذ ذلك الحين، لم يعد ممكناً أن نتحدث عن السينما الأميركية دون استحضار هذه الثلاثية، التي شكل الجزء الأول منها حجر الزاوية.
خرجت من هذا التوتر تحفة سينمائية صنعت أسطورة جديدة، وأرست أسس الملحمة الحديثة عن العائلة، السلطة والقدر، فيلم يزاوج بين الحكاية الشعبية والعمق التراجيدي، بين البنية الكلاسيكية والجرأة الحداثية.
ولهذا السبب، بقي العمل إلى اليوم أيقونة تتجاوز السينما الأميركية لتصبح نصاً عالمياً عن معنى السلطة وسقوطها.
يشتغل فيلم “العراب” على مستويات متداخلة: كحكاية مشوقة، كعمل بصري ساحر، وكنص تأملي حول الإنسان حين يصبح سجينا لعائلته واسمه ودمه.
لقد تحول إلى نص مفتوح يمكن قراءته في مستويات عدة: بوصفه فيلماً عن المافيا، بوصفه نقداً للحلم الأميركي أو كتراجيديا أوديبية عن الأبناء الذين يقتلون الأب رمزياً ليأخذوا مكانه.
وربما هذا التعدد هو ما جعله عملاً خالداً، يظل قادراً على إنتاج معانٍ جديدة مع كل مشاهدة. ولهذا ظل الفيلم، بعد أكثر من نصف قرن، يُقرأ كما تُقرأ الملاحم الكلاسيكية، ويُعاد اكتشافه كما لو كان مرآة لعصرنا الراهن.
العائلة كإمبراطورية بديلة
تبدو قصة الفيلم بسيطة في ظاهرها: آل كورليوني، عائلة مافيا إيطالية في نيويورك، يقودها “دون فيتو” (مارلون براندو)، رجل حكيم وهادئ يحكم بميزان القوة والرحمة.
لكن تحت هذا السطح، يرسم كوبولا لوحة عن تفكك النظام الأخلاقي حين يتماهى مع منطق العائلة. فالمافيا هنا نموذج موازٍ للدولة، له قوانينه ومراسيمه وقضاؤه، حيث يُستبدل القانون المدني بـ”شرف العائلة” والدم يصبح العملة الحقيقية للولاء.
يبدأ الفيلم بمشهد العرس الشهير، حيث يتلقّى “دون فيتو كورليوني” طلبات الناس في مكتبه المظلم، بينما يحتفل الخارج بالرقص في وضح النهار.
هذا المشهد التأسيسي هو طقس سياسي بامتياز: العائلة هنا سلطة تمنح الحماية مقابل الطاعة، والدم هو العملة الرمزية للوفاء. بهذا المعنى، فإن المافيا ليست سوى الوجه السريّ للدولة الحديثة، تمارس العنف باسم الشرف، كما تمارسه الدولة باسم القانون.
تتحول العائلة إلى استعارة عن الدولة نفسها
تتحول العائلة إلى استعارة عن الدولة نفسها: نفس الطقوس، نفس الولاءات، نفس البيروقراطية المبنية على الولاء الشخصي لا على القانون. فالمشهد الافتتاحي، حيث يتلقى دون فيتو طلبات يوم العرس يجسد إعادة كتابة لطقس سياسي، حيث يصبح الزعيم رمزاً للحماية والقوة، شرط أن يدفع الجميع ثمن الولاء.
يحكي الفيلم عن العائلة كورليوني في لحظة انتقال السلطة من الأب، “دون فيتو” إلى الابن الأصغر مايكل (آل باتشينو). القصة في جوهرها حكاية خلافة: من سيخلف الأب؟ لكن السرد يتجاوز الجريمة ليطرح سؤالاً وجودياً: هل يمكن للمرء أن يختار مصيره أم أن القدر يفرض نفسه؟
يكمن جوهر الفيلم في رحلة مايكل كورليوني شاب جامعي، بطل حرب (محارب عائد من الحرب، خطيبته أميركية من خارج الجالية الإيطالية)، اختار مساراً نظيفاً ورفض في البداية أن يكون جزءاً من عالم والده. لكنه، تحت ضغط الأحداث، يتحول شيئاً فشيئاً إلى صورة أكثر قسوة من الأب نفسه.
نقطة التحول تأتي حين يُطلق النار على الشرطي سولوزو في المطعم. هنا يدخل مايكل حيز الأسطورة: الابن الذي ورث دم العائلة، وأصبح جزءاً من مصيرها.
هذه ليست فقط رحلة صعود في السلطة بل تجسيد للتراجيديا اليونانية، محاولة الهروب من القدر تقود في النهاية إلى الوقوع في شباكه. مايكل يصبح زعيم المافيا لأنه كان يرفض ذلك بالذات، وهكذا، ينغلق قوس المصير مثل قدر لا يُقاوم
آل كورليوني يشبهون إمبراطورية رومانية متأخرة: القيم القديمة تنهار وتنتقل السلطة من الأب المؤسس إلى الابن الذي سيؤسس لعصر أكثر برودة وأكثر عقلانية. تلك هي دراما الانتقال من سلطة الأب إلى سلطة الابن.. موت الرحمة وبداية البيروقراطية الدموية. منذ اللحظة التي يطلق فيها مايكل كورليوني النار على الشرطي، يُختم قدره. الابن الذي أراد أن يبقى خارج العائلة يصبح وريثها، والحرية التي حلم بها تتحوّل إلى قفص من ذهب.
يصبح مايكل نسخة أكثر قسوة من أبيه، لأن الهروب من ظلّ الأب لا يتم إلا بتبنّي قسوته.
أحد أعظم إنجازات الفيلم هو نقده للحلم الأميركي. آل كورليوني، مهاجرون إيطاليون يسعون للاندماج والنجاح في أميركا، يحققون ذلك النجاح من خلال الجريمة والدم. ما يفضحه كوبولا هو أن المنظومة الأميركية ذاتها تقوم على العنف، حتى لو اختبأ تحت قشرة قانونية .
حيث تصبح المافيا الوجه الأكثر وضوحاً للمنطق الاقتصادي والسياسي الأميركي. فحين يقول مايكل: “أبي مجرد رجل قوي في عائلته، مثل سيناتور أو رئيس جمهورية، والفرق الوحيد هو أن والدي لا يحتاج إلى التظاهر”، يعلن بوضوح أن الفارق بين الدولة والعصابة هو مجرد وهم.
تكمن القوة الفلسفية للفيلم في جدله مع الحلم الأميركي. فالمافيا، وهي الوجه الخفي للهجرة الإيطالية، تمثل محاولة لصعود اجتماعي، لكنها في الوقت ذاته تفكك هذا الحلم من الداخل. إذا كان “النجاح” في أميركا يقاس بالمال والنفوذ، فإن آل كورليوني هم التجسيد الأكثر راديكالية لذلك النجاح، حتى لو كان مغطى بالدماء.
وهنا تصبح العائلة استعارة عن الدولة ذاتها: نفس الطقوس، نفس الولاءات، ونفس آليات العنف. إن كوبولا يضع إصبعه على جوهر الحداثة السياسية :العنف هو قلب كل نظام، مهما تزيّا بالقانون. آل كورليوني ليسوا غرباء عن المنظومة الأميركية، بل صورتها المكثفة: أميركا التي تحكم بيدين نظيفتين فوق المائدة، وأيدٍ دامية تحتها.
لا تقوم السلطة في الفيلم على العدالة بل على التوازن بين الخوف والاحترام. إنها، في الجوهر، سلطة الأب الغائب الذي يظلّ حاكما حتى بعد موته، لأن الأب في المخيال الجمعي ليس شخصا بل نظامًا رمزيًا من الطاعة.
في المشهد الأخير، حين يُغلق الباب على كاي (ديان كيتون) بينما يُقبّل رجال العائلة يد مايكل، يتجسد الإحساس القدري بأوضح أشكاله: لم يعد هناك طريق عودة. لقد تم التحول واكتمل معه الانغلاق.
الابن الذي كان يرفض العنف أصبح سيد الدم، والإنسان الذي أراد حياة طبيعية أصبح سجينا في إمبراطورية الظل، ما يجعل هذا المشهد بالغ القوة هو صمته، اختزاله لحكاية كاملة في حركة واحدة :باب يغلق على الحب ويفتح على سجن السلطة.
جمالية الظلال والنور
تتجسد جمالية الفيلم أولاً في البناء البصري، مشاهد الليل المضاءة بالظلال والشموع تمنح العائلة بعداً أسطورياً، فقد صاغ غوردون ويليس، مدير التصوير الذي سيحمل لقب “أمير الظلام” بعينه الذكية، مع كوبولا جمالية بصرية تقوم على التناقض الحاد بين الضوء والظل، الظلال الكثيفة والإنارة المنخفضة، تغرق الغرف الداخلية ومشاهد الاجتماعات داخل المكتب في عتمة كثيفة، خصوصاً في مكتب دون فيتو كورليوني، تُضاء بالحد الأدنى، في إيحاء بأن السلطة تُمارَس في الخفاء، عتمة كأنها مشاهد من كاتدرائية غامضة، في المقابل، تُصوَّر حفلات الأعراس والاحتفالات العائلية تحت ضوء النهار، حيث الوجه العائلي/ الاجتماعي يبدو مشرقاً.
تبرز مشبعة بالضوء والحياة. هذه الثنائية البصرية تعكس جوهر الفيلم: الحياة العائلية الدافئة مقابل قسوة السلطة الملطخة بالدماء.
الموسيقى كذاكرة قدرية
تعمل الموسيقى التي كتبها نينو روتا، بلحنها الحزين المتكرر، كصوت قدري يرافق الشخصيات. تشبه موسيقى جنائزية منذ البداية تحاكي مشاهد الصعود والهبوط الدرامي في الفيلم.
موسيقى هي صوت الفيلم الداخلي، أناشيد دفينة تحاكي النواح والقدر. اللحن الرئيسي البسيط والعاطفي، يعمل كتذكير دائم بأن وراء القوة والثراء تختبئ مأساة قادمة. إنه لحن يُعزف كأنما على جثة الحلم الأميركي، يردد شعوراً بأن كل صعود محكوم عليه بالسقوط.
الأثر التاريخي والفني
بجانب نجاحه الجماهيري الساحق، أسس الفيلم لغة جديدة للسينما الأميركية. تمزج بين السرد الكلاسيكي واللمسة الأوروبية في الإيقاع والبناء البصري، فتح الطريق أمام “السينما المؤلفية” في هوليوود السبعينيات.
صار مرجعاً لا يُتجاوز، وأثره واضح في أفلام لاحقة مثل Goodfellas لسكورسيزي وThe Sopranos في التلفزيون. لكنه يظل متفرداً بقدرته على الجمع بين المتعة الشعبية والعمق الفلسفي.
لم يكن أثر الفيلم محصوراً في السينما. لقد أعاد صياغة صورة المافيا في المخيلة الشعبية، ومنحها بعداً أسطورياً لم يكن موجوداً في الأفلام السابقة. أصبح “العرّاب” مرادفاً للسلطة الأبوية المطلقة، وصار الحوار والجمل المأثورة جزءاً من الثقافة الجماعية.
أكثر من ذلك، قرأ النقاد الفيلم بوصفه استعارة عن الدولة الأميركية ذاتها: مؤسسة تدّعي حماية أبنائها، لكنها في العمق تحكمهم عبر العنف المستتر..
لقد غيّر كوبولا صورة المافيا في المخيلة الجماعية: لم تعد العصابة مجرمين، بل سلالة ذات أخلاق خاصة، أرستقراطية العنف. لكن الأهم أن الفيلم فضح التشابه البنيوي بين الدولة والعائلة: كلاهما يبرّر القتل باسم النظام، ويُؤسس الولاء على الخوف، ويقدّس الزعيم كما يُقدّس الأب.
إن قوة فيلم “العراب” تكمن في أنه يتجاوز أفلام الجريمة والمافيا، هو نص مفتوح يمكن قراءته كتراجيديا يونانية، كملحمة هوميرية عن العائلة، أو كتحليل سياسي عن السلطة الحديثة. وهذا ما يفسر خلوده: لأنه لا يحكي فقط قصة آل كورليوني، بل يحكي قصة كل إنسان تحاصره الأقدار وكل مجتمع يتأرجح بين وجهه العائلي ووجهه الدموي.
ترقبوا الحلقة القادمة و فيلم “جانجباي كاثياوادي“: نشيد الغضب الناعم وقيامة المرأة من رماد العار
لقد وُلد الفيلم من رحم أزمة هوليوود في مطلع السبعينيات: انكسار نظام الاستوديوهات الكلاسيكية مع صعود جيل جديد من المخرجين الذين تمردوا على الصنعة السينمائية (سكورسيزي، كوبولا، دي بالما)، وتراجع الجمهور أمام الإغراء المتزايد للتلفزيون.
في هذا الفراغ، وجد كوبولا ـ ابن المهاجرين الإيطاليين الذي كان في الثلاثين من عمره ـ نفسه مكلفاً بمشروع رفضه كبار المخرجين، راقبه استوديو باراماونت بصرامة لأنه كان يشك في نجاح الفيلم.
تحوّل المشروع الذي نظر إليه الاستوديو كفيلم تجاري إلى تراجيديا كونية. فما بدا في ظاهره حكاية جريمة، اتضح في جوهره أنه ملحمة عن الإنسان حين يصبح أسيرا لعائلته ولقانونه السريّ، عن السلطة حين تتلبّس ثوب الأب، وعن الخلاص الذي لا يُمنح إلا عبر الخطيئة.
ومنذ ذلك الحين، لم يعد ممكناً أن نتحدث عن السينما الأميركية دون استحضار هذه الثلاثية، التي شكل الجزء الأول منها حجر الزاوية.
خرجت من هذا التوتر تحفة سينمائية صنعت أسطورة جديدة، وأرست أسس الملحمة الحديثة عن العائلة، السلطة والقدر، فيلم يزاوج بين الحكاية الشعبية والعمق التراجيدي، بين البنية الكلاسيكية والجرأة الحداثية.
ولهذا السبب، بقي العمل إلى اليوم أيقونة تتجاوز السينما الأميركية لتصبح نصاً عالمياً عن معنى السلطة وسقوطها.
يشتغل فيلم “العراب” على مستويات متداخلة: كحكاية مشوقة، كعمل بصري ساحر، وكنص تأملي حول الإنسان حين يصبح سجينا لعائلته واسمه ودمه.
لقد تحول إلى نص مفتوح يمكن قراءته في مستويات عدة: بوصفه فيلماً عن المافيا، بوصفه نقداً للحلم الأميركي أو كتراجيديا أوديبية عن الأبناء الذين يقتلون الأب رمزياً ليأخذوا مكانه.
وربما هذا التعدد هو ما جعله عملاً خالداً، يظل قادراً على إنتاج معانٍ جديدة مع كل مشاهدة. ولهذا ظل الفيلم، بعد أكثر من نصف قرن، يُقرأ كما تُقرأ الملاحم الكلاسيكية، ويُعاد اكتشافه كما لو كان مرآة لعصرنا الراهن.
العائلة كإمبراطورية بديلة
تبدو قصة الفيلم بسيطة في ظاهرها: آل كورليوني، عائلة مافيا إيطالية في نيويورك، يقودها “دون فيتو” (مارلون براندو)، رجل حكيم وهادئ يحكم بميزان القوة والرحمة.
لكن تحت هذا السطح، يرسم كوبولا لوحة عن تفكك النظام الأخلاقي حين يتماهى مع منطق العائلة. فالمافيا هنا نموذج موازٍ للدولة، له قوانينه ومراسيمه وقضاؤه، حيث يُستبدل القانون المدني بـ”شرف العائلة” والدم يصبح العملة الحقيقية للولاء.
يبدأ الفيلم بمشهد العرس الشهير، حيث يتلقّى “دون فيتو كورليوني” طلبات الناس في مكتبه المظلم، بينما يحتفل الخارج بالرقص في وضح النهار.
هذا المشهد التأسيسي هو طقس سياسي بامتياز: العائلة هنا سلطة تمنح الحماية مقابل الطاعة، والدم هو العملة الرمزية للوفاء. بهذا المعنى، فإن المافيا ليست سوى الوجه السريّ للدولة الحديثة، تمارس العنف باسم الشرف، كما تمارسه الدولة باسم القانون.
تتحول العائلة إلى استعارة عن الدولة نفسها
تتحول العائلة إلى استعارة عن الدولة نفسها: نفس الطقوس، نفس الولاءات، نفس البيروقراطية المبنية على الولاء الشخصي لا على القانون. فالمشهد الافتتاحي، حيث يتلقى دون فيتو طلبات يوم العرس يجسد إعادة كتابة لطقس سياسي، حيث يصبح الزعيم رمزاً للحماية والقوة، شرط أن يدفع الجميع ثمن الولاء.
يحكي الفيلم عن العائلة كورليوني في لحظة انتقال السلطة من الأب، “دون فيتو” إلى الابن الأصغر مايكل (آل باتشينو). القصة في جوهرها حكاية خلافة: من سيخلف الأب؟ لكن السرد يتجاوز الجريمة ليطرح سؤالاً وجودياً: هل يمكن للمرء أن يختار مصيره أم أن القدر يفرض نفسه؟
يكمن جوهر الفيلم في رحلة مايكل كورليوني شاب جامعي، بطل حرب (محارب عائد من الحرب، خطيبته أميركية من خارج الجالية الإيطالية)، اختار مساراً نظيفاً ورفض في البداية أن يكون جزءاً من عالم والده. لكنه، تحت ضغط الأحداث، يتحول شيئاً فشيئاً إلى صورة أكثر قسوة من الأب نفسه.
نقطة التحول تأتي حين يُطلق النار على الشرطي سولوزو في المطعم. هنا يدخل مايكل حيز الأسطورة: الابن الذي ورث دم العائلة، وأصبح جزءاً من مصيرها.
هذه ليست فقط رحلة صعود في السلطة بل تجسيد للتراجيديا اليونانية، محاولة الهروب من القدر تقود في النهاية إلى الوقوع في شباكه. مايكل يصبح زعيم المافيا لأنه كان يرفض ذلك بالذات، وهكذا، ينغلق قوس المصير مثل قدر لا يُقاوم
آل كورليوني يشبهون إمبراطورية رومانية متأخرة: القيم القديمة تنهار وتنتقل السلطة من الأب المؤسس إلى الابن الذي سيؤسس لعصر أكثر برودة وأكثر عقلانية. تلك هي دراما الانتقال من سلطة الأب إلى سلطة الابن.. موت الرحمة وبداية البيروقراطية الدموية. منذ اللحظة التي يطلق فيها مايكل كورليوني النار على الشرطي، يُختم قدره. الابن الذي أراد أن يبقى خارج العائلة يصبح وريثها، والحرية التي حلم بها تتحوّل إلى قفص من ذهب.
يصبح مايكل نسخة أكثر قسوة من أبيه، لأن الهروب من ظلّ الأب لا يتم إلا بتبنّي قسوته.
أحد أعظم إنجازات الفيلم هو نقده للحلم الأميركي. آل كورليوني، مهاجرون إيطاليون يسعون للاندماج والنجاح في أميركا، يحققون ذلك النجاح من خلال الجريمة والدم. ما يفضحه كوبولا هو أن المنظومة الأميركية ذاتها تقوم على العنف، حتى لو اختبأ تحت قشرة قانونية .
حيث تصبح المافيا الوجه الأكثر وضوحاً للمنطق الاقتصادي والسياسي الأميركي. فحين يقول مايكل: “أبي مجرد رجل قوي في عائلته، مثل سيناتور أو رئيس جمهورية، والفرق الوحيد هو أن والدي لا يحتاج إلى التظاهر”، يعلن بوضوح أن الفارق بين الدولة والعصابة هو مجرد وهم.
تكمن القوة الفلسفية للفيلم في جدله مع الحلم الأميركي. فالمافيا، وهي الوجه الخفي للهجرة الإيطالية، تمثل محاولة لصعود اجتماعي، لكنها في الوقت ذاته تفكك هذا الحلم من الداخل. إذا كان “النجاح” في أميركا يقاس بالمال والنفوذ، فإن آل كورليوني هم التجسيد الأكثر راديكالية لذلك النجاح، حتى لو كان مغطى بالدماء.
وهنا تصبح العائلة استعارة عن الدولة ذاتها: نفس الطقوس، نفس الولاءات، ونفس آليات العنف. إن كوبولا يضع إصبعه على جوهر الحداثة السياسية :العنف هو قلب كل نظام، مهما تزيّا بالقانون. آل كورليوني ليسوا غرباء عن المنظومة الأميركية، بل صورتها المكثفة: أميركا التي تحكم بيدين نظيفتين فوق المائدة، وأيدٍ دامية تحتها.
لا تقوم السلطة في الفيلم على العدالة بل على التوازن بين الخوف والاحترام. إنها، في الجوهر، سلطة الأب الغائب الذي يظلّ حاكما حتى بعد موته، لأن الأب في المخيال الجمعي ليس شخصا بل نظامًا رمزيًا من الطاعة.
في المشهد الأخير، حين يُغلق الباب على كاي (ديان كيتون) بينما يُقبّل رجال العائلة يد مايكل، يتجسد الإحساس القدري بأوضح أشكاله: لم يعد هناك طريق عودة. لقد تم التحول واكتمل معه الانغلاق.
الابن الذي كان يرفض العنف أصبح سيد الدم، والإنسان الذي أراد حياة طبيعية أصبح سجينا في إمبراطورية الظل، ما يجعل هذا المشهد بالغ القوة هو صمته، اختزاله لحكاية كاملة في حركة واحدة :باب يغلق على الحب ويفتح على سجن السلطة.
جمالية الظلال والنور
تتجسد جمالية الفيلم أولاً في البناء البصري، مشاهد الليل المضاءة بالظلال والشموع تمنح العائلة بعداً أسطورياً، فقد صاغ غوردون ويليس، مدير التصوير الذي سيحمل لقب “أمير الظلام” بعينه الذكية، مع كوبولا جمالية بصرية تقوم على التناقض الحاد بين الضوء والظل، الظلال الكثيفة والإنارة المنخفضة، تغرق الغرف الداخلية ومشاهد الاجتماعات داخل المكتب في عتمة كثيفة، خصوصاً في مكتب دون فيتو كورليوني، تُضاء بالحد الأدنى، في إيحاء بأن السلطة تُمارَس في الخفاء، عتمة كأنها مشاهد من كاتدرائية غامضة، في المقابل، تُصوَّر حفلات الأعراس والاحتفالات العائلية تحت ضوء النهار، حيث الوجه العائلي/ الاجتماعي يبدو مشرقاً.
تبرز مشبعة بالضوء والحياة. هذه الثنائية البصرية تعكس جوهر الفيلم: الحياة العائلية الدافئة مقابل قسوة السلطة الملطخة بالدماء.
الموسيقى كذاكرة قدرية
تعمل الموسيقى التي كتبها نينو روتا، بلحنها الحزين المتكرر، كصوت قدري يرافق الشخصيات. تشبه موسيقى جنائزية منذ البداية تحاكي مشاهد الصعود والهبوط الدرامي في الفيلم.
موسيقى هي صوت الفيلم الداخلي، أناشيد دفينة تحاكي النواح والقدر. اللحن الرئيسي البسيط والعاطفي، يعمل كتذكير دائم بأن وراء القوة والثراء تختبئ مأساة قادمة. إنه لحن يُعزف كأنما على جثة الحلم الأميركي، يردد شعوراً بأن كل صعود محكوم عليه بالسقوط.
الأثر التاريخي والفني
بجانب نجاحه الجماهيري الساحق، أسس الفيلم لغة جديدة للسينما الأميركية. تمزج بين السرد الكلاسيكي واللمسة الأوروبية في الإيقاع والبناء البصري، فتح الطريق أمام “السينما المؤلفية” في هوليوود السبعينيات.
صار مرجعاً لا يُتجاوز، وأثره واضح في أفلام لاحقة مثل Goodfellas لسكورسيزي وThe Sopranos في التلفزيون. لكنه يظل متفرداً بقدرته على الجمع بين المتعة الشعبية والعمق الفلسفي.
لم يكن أثر الفيلم محصوراً في السينما. لقد أعاد صياغة صورة المافيا في المخيلة الشعبية، ومنحها بعداً أسطورياً لم يكن موجوداً في الأفلام السابقة. أصبح “العرّاب” مرادفاً للسلطة الأبوية المطلقة، وصار الحوار والجمل المأثورة جزءاً من الثقافة الجماعية.
أكثر من ذلك، قرأ النقاد الفيلم بوصفه استعارة عن الدولة الأميركية ذاتها: مؤسسة تدّعي حماية أبنائها، لكنها في العمق تحكمهم عبر العنف المستتر..
لقد غيّر كوبولا صورة المافيا في المخيلة الجماعية: لم تعد العصابة مجرمين، بل سلالة ذات أخلاق خاصة، أرستقراطية العنف. لكن الأهم أن الفيلم فضح التشابه البنيوي بين الدولة والعائلة: كلاهما يبرّر القتل باسم النظام، ويُؤسس الولاء على الخوف، ويقدّس الزعيم كما يُقدّس الأب.
إن قوة فيلم “العراب” تكمن في أنه يتجاوز أفلام الجريمة والمافيا، هو نص مفتوح يمكن قراءته كتراجيديا يونانية، كملحمة هوميرية عن العائلة، أو كتحليل سياسي عن السلطة الحديثة. وهذا ما يفسر خلوده: لأنه لا يحكي فقط قصة آل كورليوني، بل يحكي قصة كل إنسان تحاصره الأقدار وكل مجتمع يتأرجح بين وجهه العائلي ووجهه الدموي.
ترقبوا الحلقة القادمة و فيلم “جانجباي كاثياوادي“: نشيد الغضب الناعم وقيامة المرأة من رماد العار