بقلم: الدكتور خالد فتحي
مصدر سعادتي لا يقتصر على العثور على الوثيقة، بل في تأكيد حدس راودني طويلًا: أن علال، الذي أقام بالقاهرة بين 1946 و1952، لا بد وأنه تواصل مع طه حسين، وهو المفكر الموسوعي، والفقيه المتبحر، والتنويري العميق، الذي لا يمكن أن تغيب عنه مثل هذه القامة المصرية الفريدة.
لقد كانت غبطتي مضاعفة، كوني أجاور يوميًا المؤلفات الكاملة لكليهما، حيث تتقاسم كتبهما صدارة رفوف مكتبتي، وترافقني أغلفتهما وصورهما كما لو أنهما يحييان معي.الرسالة مؤرخة في 18 أكتوبر 1950، ونُشرت لاحقًا ضمن كتاب مصري عنوانه: طه حسين.. الوثائق السرية (1081 صفحة)، بتحقيق الدكتور عبد الحميد إبراهيم. وهي رسالة موجزة من ثلاث صفحات فقط، موقّعة بـ: "المخلص محمد علال الفاسي".
موضوع الرسالة هو دعوة رسمية موجّهة من علال الفاسي، عبر وزارة الخارجية المصرية، إلى وزير المعارف العمومية طه حسين، من أجل الاستمرار في تأسيس مدرسة عربية مصرية بمدينة طنجة، التي كانت حينها تحت النظام الدولي، وسط مناورات استعمارية غربية تهدف إلى مسخ هوية المغرب وفصله عن محيطه العربي.
الرسالة مكتوبة بلغة رزينة، مركزة، خالية من أي تطويل أو تكلف، ومشحونة بوعي قانوني، وبعد استراتيجي واضح. ويمكن أن نستخلص منها أمرين اثنين:
1- أن علال الفاسي كان يفضل الأسلوب السهل الممتنع، الذي يصل إلى العقول دون عناء.
2-أنه لم يشعر بأي رهبة من مخاطبة عملاق مثل طه حسين، مما يعكس ثقة علال في مكانته الفكرية، وتوازنه في التعاطي مع رموز الفكر العربي.
كما أن الرسالة تعكس اندماج علال في الوسط الثقافي المصري، ووعيه الكامل بالتحولات التي تعرفها الساحة السياسية في مصر وسوريا، وانخراطه العضوي في النهضة الأدبية والإعلامية بالمشرق العربي.
لا غرابة أن يكون علال الفاسي هو من وجه نداء القاهرة الشهير عبر إذاعة صوت العرب عقب نفي السلطان محمد بن يوسف سنة 1953، فمثل هذه الرسائل تُثبت أنه كان محل ثقة لدى الدولة المصرية، وبمثابة الناطق غير الرسمي باسم المغرب وقضاياه في الشرق.رسالة علال إلى طه حسين لم تكن تواصلًا شخصيًا، بل وثيقة سياسية ومؤسساتية، تُبرز براغماتية الرجل، ودقته القانونية، وحرصه على تجاوز كل الذرائع الاستعمارية التي تعرقل إنشاء مدرسة عربية في طنجة.
لقد قدّم عرضًا قانونيًا واضحًا، استند فيه إلى معاهدة الجزيرة الخضراء، وبيّن أنه لا يوجد فيها ما يمنع إنشاء مدرسة، بل شدد قائلاً:
"الوضعية الحالية الآن في طنجة هي: ليس في التشريع المحلي، ولا في المعاهدات، ما يفرض أي أعمال من استئذان أو إشعار أو ما أشبه عند فتح أية مؤسسة ثقافية أو علمية."
لم يكن مشروع المدرسة بالنسبة لعلال الفاسي مجرد مرفق تربوي، بل أداة لتحصين الهوية العربية الإسلامية، وخط دفاع ثقافي ضد التغريب، ونقطة وصل بين المغرب والمشرق.المدرسة، في فهمه، كانت مشروعًا تحرريًا لا يقل أهمية عن أي جبهة من جبهات المقاومة المسلحة، لأن الاستعمار، كما كتب، يسعى إلى فصل المغرب عن محيطه، وطمس لغته وثقافته ضمن ما سماه "منطقة أوروبية".
لقد وجّه الفاسي خطابه لطه حسين بلغة تحترم موقعه الرسمي كوزير، وتُراعي خلفيته الفكرية التحديثية. لم يستخدم خطابًا عاطفيًا أو شعارات قومية فضفاضة، بل كان عمليًا، موضوعيًا، ودقيقًا في عرضه.
ما يميز الرسالة أنها كُتبت بفهم دقيق لشخصية طه حسين. علال الفاسي، وهو القارئ النهم، كان على دراية بمواقف طه حسين كما عبّر عنها في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، حيث دعا إلى دمج مصر في الحضارة الغربية، وأعلن أن التعليم يجب أن يُفصل عن الدين، وأن مصر جزء من أوروبا ثقافيًا.
لكن علال، دون أن يصطدم بهذا الطرح، خاطبه من داخل منطقه، ووظّف نفس الأسلوب العقلاني القانوني الذي يحبذه طه حسين، فنجح في بناء جسر تواصل فعّال لا يصطدم، بل يُقنع.
ويبدو أن حدس علال كان صائبًا، إذ أن طه حسين، بعد توليه وزارة المعارف، بدأ يُظهر توازنًا جديدًا في سياساته، منح فيها اعتبارًا أكبر للهوية القومية والإسلامية، خاصة بعد نكبة 1948، وهو ما تجلى لاحقًا في مؤلفاته مثل مرآة الإسلام والفتنة الكبرى.لقد كانت هذه الرسالة، على قصرها، منجمًا لفهم شخصية علال الفاسي: زعيم لا يُفرّط في المبادئ، ولا يغفل عن الوسائل.
استطاع أن يجمع بين النضال الوطني والعمل الدبلوماسي، بين الفكرة والعمل، وبين التحمّس للقضية والوعي بالعوائق.
وإذا كانت الرسالة قد استُخدمت كوسيلة لحماية التعليم واللغة، فإنها كانت في العمق جزءًا من معركة مصيرية لتحرير الإنسان العربي وبناء دولته على أسس سيادية، لا تبعية.
لقد كشفت هذه الرسالة أن علال الفاسي لم يكن مجرد زعيم وطني يرفع الشعارات، بل كان مفكرًا استراتيجيًا يُحسن استخدام أدوات الدولة والقانون والدبلوماسية لخدمة مشروع تحرري متكامل. كان يدرك أن المعركة الحقيقية لا تُخاض فقط في الشارع أو ساحة المعركة، بل أيضًا في قاعات الدرس، وبين سطور المراسلات، ومن داخل مؤسسات القرار. لقد كان مشروعًا نهضويًا يمشي على قدمين، يجمع بين الفكرة والمبادرة، بين الرؤية والعمل. براغماتيته الذكية، وقدرته على مخاطبة طه حسين بمنطقه دون مجاملات أو افتعال صدام، تؤكد أنه كان رجل دولة بفكر مثقف، ومثقفًا بسلوك رجل دولة، يرى في التعليم والهوية والثقافة أدوات نضال لا تقل أهمية عن السياسة والسلاح.
لقد كانت غبطتي مضاعفة، كوني أجاور يوميًا المؤلفات الكاملة لكليهما، حيث تتقاسم كتبهما صدارة رفوف مكتبتي، وترافقني أغلفتهما وصورهما كما لو أنهما يحييان معي.الرسالة مؤرخة في 18 أكتوبر 1950، ونُشرت لاحقًا ضمن كتاب مصري عنوانه: طه حسين.. الوثائق السرية (1081 صفحة)، بتحقيق الدكتور عبد الحميد إبراهيم. وهي رسالة موجزة من ثلاث صفحات فقط، موقّعة بـ: "المخلص محمد علال الفاسي".
موضوع الرسالة هو دعوة رسمية موجّهة من علال الفاسي، عبر وزارة الخارجية المصرية، إلى وزير المعارف العمومية طه حسين، من أجل الاستمرار في تأسيس مدرسة عربية مصرية بمدينة طنجة، التي كانت حينها تحت النظام الدولي، وسط مناورات استعمارية غربية تهدف إلى مسخ هوية المغرب وفصله عن محيطه العربي.
الرسالة مكتوبة بلغة رزينة، مركزة، خالية من أي تطويل أو تكلف، ومشحونة بوعي قانوني، وبعد استراتيجي واضح. ويمكن أن نستخلص منها أمرين اثنين:
1- أن علال الفاسي كان يفضل الأسلوب السهل الممتنع، الذي يصل إلى العقول دون عناء.
2-أنه لم يشعر بأي رهبة من مخاطبة عملاق مثل طه حسين، مما يعكس ثقة علال في مكانته الفكرية، وتوازنه في التعاطي مع رموز الفكر العربي.
كما أن الرسالة تعكس اندماج علال في الوسط الثقافي المصري، ووعيه الكامل بالتحولات التي تعرفها الساحة السياسية في مصر وسوريا، وانخراطه العضوي في النهضة الأدبية والإعلامية بالمشرق العربي.
لا غرابة أن يكون علال الفاسي هو من وجه نداء القاهرة الشهير عبر إذاعة صوت العرب عقب نفي السلطان محمد بن يوسف سنة 1953، فمثل هذه الرسائل تُثبت أنه كان محل ثقة لدى الدولة المصرية، وبمثابة الناطق غير الرسمي باسم المغرب وقضاياه في الشرق.رسالة علال إلى طه حسين لم تكن تواصلًا شخصيًا، بل وثيقة سياسية ومؤسساتية، تُبرز براغماتية الرجل، ودقته القانونية، وحرصه على تجاوز كل الذرائع الاستعمارية التي تعرقل إنشاء مدرسة عربية في طنجة.
لقد قدّم عرضًا قانونيًا واضحًا، استند فيه إلى معاهدة الجزيرة الخضراء، وبيّن أنه لا يوجد فيها ما يمنع إنشاء مدرسة، بل شدد قائلاً:
"الوضعية الحالية الآن في طنجة هي: ليس في التشريع المحلي، ولا في المعاهدات، ما يفرض أي أعمال من استئذان أو إشعار أو ما أشبه عند فتح أية مؤسسة ثقافية أو علمية."
لم يكن مشروع المدرسة بالنسبة لعلال الفاسي مجرد مرفق تربوي، بل أداة لتحصين الهوية العربية الإسلامية، وخط دفاع ثقافي ضد التغريب، ونقطة وصل بين المغرب والمشرق.المدرسة، في فهمه، كانت مشروعًا تحرريًا لا يقل أهمية عن أي جبهة من جبهات المقاومة المسلحة، لأن الاستعمار، كما كتب، يسعى إلى فصل المغرب عن محيطه، وطمس لغته وثقافته ضمن ما سماه "منطقة أوروبية".
لقد وجّه الفاسي خطابه لطه حسين بلغة تحترم موقعه الرسمي كوزير، وتُراعي خلفيته الفكرية التحديثية. لم يستخدم خطابًا عاطفيًا أو شعارات قومية فضفاضة، بل كان عمليًا، موضوعيًا، ودقيقًا في عرضه.
ما يميز الرسالة أنها كُتبت بفهم دقيق لشخصية طه حسين. علال الفاسي، وهو القارئ النهم، كان على دراية بمواقف طه حسين كما عبّر عنها في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، حيث دعا إلى دمج مصر في الحضارة الغربية، وأعلن أن التعليم يجب أن يُفصل عن الدين، وأن مصر جزء من أوروبا ثقافيًا.
لكن علال، دون أن يصطدم بهذا الطرح، خاطبه من داخل منطقه، ووظّف نفس الأسلوب العقلاني القانوني الذي يحبذه طه حسين، فنجح في بناء جسر تواصل فعّال لا يصطدم، بل يُقنع.
ويبدو أن حدس علال كان صائبًا، إذ أن طه حسين، بعد توليه وزارة المعارف، بدأ يُظهر توازنًا جديدًا في سياساته، منح فيها اعتبارًا أكبر للهوية القومية والإسلامية، خاصة بعد نكبة 1948، وهو ما تجلى لاحقًا في مؤلفاته مثل مرآة الإسلام والفتنة الكبرى.لقد كانت هذه الرسالة، على قصرها، منجمًا لفهم شخصية علال الفاسي: زعيم لا يُفرّط في المبادئ، ولا يغفل عن الوسائل.
استطاع أن يجمع بين النضال الوطني والعمل الدبلوماسي، بين الفكرة والعمل، وبين التحمّس للقضية والوعي بالعوائق.
وإذا كانت الرسالة قد استُخدمت كوسيلة لحماية التعليم واللغة، فإنها كانت في العمق جزءًا من معركة مصيرية لتحرير الإنسان العربي وبناء دولته على أسس سيادية، لا تبعية.
لقد كشفت هذه الرسالة أن علال الفاسي لم يكن مجرد زعيم وطني يرفع الشعارات، بل كان مفكرًا استراتيجيًا يُحسن استخدام أدوات الدولة والقانون والدبلوماسية لخدمة مشروع تحرري متكامل. كان يدرك أن المعركة الحقيقية لا تُخاض فقط في الشارع أو ساحة المعركة، بل أيضًا في قاعات الدرس، وبين سطور المراسلات، ومن داخل مؤسسات القرار. لقد كان مشروعًا نهضويًا يمشي على قدمين، يجمع بين الفكرة والمبادرة، بين الرؤية والعمل. براغماتيته الذكية، وقدرته على مخاطبة طه حسين بمنطقه دون مجاملات أو افتعال صدام، تؤكد أنه كان رجل دولة بفكر مثقف، ومثقفًا بسلوك رجل دولة، يرى في التعليم والهوية والثقافة أدوات نضال لا تقل أهمية عن السياسة والسلاح.