كتاب الرأي

حين طرتُ لأول مرة.. ولادة الهواء


"في أول طائرة ركبتها، بكيت. لم أكن خائفة من السقوط، بل كنت مذهولة لأننا كائنات أرضية، ورغم ذلك نصرّ على الطيران" إيزابيل أليندي



بقلم: عبد العزيز كوكاس

لم أُخلَق بجناحين. جئت من التراب، من الأرض الثقيلة، من الأزقة التي تعرف خطاي، ومن نَفَسٍ يسكنه الحذر العائلي والقلق والفرحة الملازمين لكل سفر. أنا ابن الطين وإن كان برجي الهواء، ابن الأرض لا السماوات المفتوحة. لذا، حين وجدتُ نفسي لأول مرة أضع قدمي في بطن طائرة، شعرتُ كما لو أني أخون انتمائي الأول، أو أنني أرتكب، بنوع من البراءة، فعلًا وجوديًا لا رجعة فيه: أن أُغادر الأرض كمن يُغادر أمه.

 

لم يكن ركوب الطائرة وقتها عاما كما اليوم، لقد كان امتيازا، كنت بالكاد في نهاية عقدي الثاني، جسدٌ شاب وقلبٌ ممتلئ بنهم الحياة، بخوفٍ شفاف يُحسن التواري خلف الابتسامة، وبدهشة غريبة صادرة من عمق روحي.. لم أكن أعرف أن الهواء يمكن أن يحمل جسدًا، ولا أن الأرض حين تصغر تحتك يمكن أن تفتح لك أبوابًا أخرى للقلق. كانت أول رحلة لي بالطائرة مثل أول حب: مترددة، مبهورة ومرتبكة الخطى.

 

في المطار، كنت مثل طفل أضاع أمه في السوق. كل شيء يلمع ويتكلم لغة لا أفهمها. الكل يبدو عارفًا طريقه، وأنا أجرّ حقيبتي متعثرا كأنني أجرّ خيبتي وخوفي معًا.

 

حين تحركت الطائرة لحظة الإقلاع من مطار الدار البيضاء، كان كل شيء جديدًا بالنسبة لي، صوت العجلات وهي ترتفع، الأنفاس المكتومة للمسافرين، صوت الربان وهو يخاطبنا بطريقة غريبة أقرب إلى لغة من يشرح للجسد كيف يفكّر، وتعليمات السلامة التي تقدمها مضيفات أنيقات أجسادهن مختارة بعناية فائقة.. جلست قرب النافذة، كان قلبي يدق كأن أحدًا يطرق عليه من الداخل. ثم بدأ الإقلاع. تلك اللحظة التي شعرت فيها أن بطني صعد إلى رأسي، وأن جاذبية الأرض توقفت عن لعب دورها. انزلقت المدينة تحت جناح الطائرة مثل صفحة طُويت بسرعة.
 

كنت فرحا، نعم، لكنه فرح حذر يشبه الضحك وسط جنازة: عالٍ، متوتّر، يختبئ خلفه سؤال: “هل أنا فعلاً من يطير أم ما زلتُ في أرض الحلم؟” حين بدأت الطائرة تنفصل عن الأرض، أحسست كأن شيئًا مني يُنتزع. وكأنني أترك خلفي جسدي الثقيل وانتماءاتي الصغيرة وشوارع المدينة التي تعرفني وتصعد روحي عارية إلى السماء.
 

أول إقلاع كان ولادة هوائية، انخطاف أول نحو عالم لا تُسنده الجاذبية. حين تطير لأول مرة تعيش تمرينًا رمزيًا على الموت. تجلس مربوطًا إلى الكرسي، لا تعرف من يقودك ولا إلى أين، تؤمن بشيء لا تراه وتضع روحك في يدِ آلاتٍ تسلمها نفسك.. ووسط هذا كله، تبتسم لأن الخوف تحوّل إلى انبهار.. أن ترى السحاب من فوق، أن تتأمل المدينة كما تتأمل نملة من نافذة الطائرة، أن تدرك أنك لست شيئًا ومع ذلك لا تخاف.. تلك هي دهشة التحليق الأول.

 

حين تبدأ الطائرة بالتسارع فوق المدرج، شيء في القلب يتباطأ كأن الزمن ينكمش داخلك ويعود بك إلى لحظة ولادة جديدة أو وداع غير مكتمل. المسافر الذي يجلس إلى النافذة وحده يرى العالم وهو يبتعد. من تلك النافذة الصغيرة، بدا لي الكون مختلفًا: الجبال تماثيل صامتة، والبحر مرآة ضخمة. هناك، بين الأرض والسماء، شعرت بشيء يشبه الحرية. حين اخترقنا السحاب، لم يكن خفيفًا ولا أبيض تماما كما كنت أراه من الأرض.. كان كثيفًا، رماديًا، وكأننا نخترق حقلًا من الصمت.

 

يأتي الخوف من ركوب الطائرة من فكرة أن تنفلت من التراب، أن تفقد يقين الجاذبية، أن تكون أنت وجسدك وذاكرتك محلّقين فوق أرضٍ لم تعد تمتلكك. أن تطير خيانة ناعمة للانتماء. يشعر المسافر في أول إقلاع بأنه يودّع الأرض ومعها ذاته القديمة، تلك التي لم تجرب بعدُ أن تكون معلّقة بين الغياب والوصال، بين المكان واللامكان. بعدها أصبح لدي الانفصال عن المدرج لحظة شعرية كاملة: الأرض تتراجع، البيوت تنكمش، الأشجار تصغر، الناس والسيارات والمباني العملاقة يصيرون نقطًا. كأن كل ما كان عظيما، يمكنه أن يتلاشى من علوّ بسيط. لقد صور الكاتب الفرنسي صاحب “الأمير الصغير” أنطوان دو سانت إكزوبيري بخبرة الطيّار هذا الشعور بدقة وهو يكتب: “حين تُقلع الطائرة، لا تحملك الأجنحة فحسب، بل تحملك أيضا فكرة أنك صرت أعلى من كل ما كان يؤلمك على الأرض.”

 

تنتابك رعشة خفيفة وأنت تركب الطائرة لأول مرة، ليست من اهتزازات المحرك بل من الروح التي تتردد بين الخوف والدهشة. يشعر الإنسان كم هو هش وكم هو قوي أيضا. أنت الآن تخلع عنك ثقل التراب لتكون أقرب ما يكون إلى الهواء. لا في الأرض ولا في السماوات. مجرد كائن يحلّق في العدم له جناحان من معدن وذكريات. وفي لحظة صفاء، بينما السحب تمرّ أسفل جناح الطائرة، تهمس في داخلك فكرة شاردة: “أهكذا تبدو الأرض حين نغادر…


الطيران، التحليق الأول، ركوب الطائرة، الخوف والدهشة





الثلاثاء 14 أكتوبر 2025
في نفس الركن