كتاب الرأي

الكاتب المغربي عبد العزيز كوكاس: الصحافة على عتبة تحول درامي والعاملون فيها «فرسان دونكيشوتيون»!


الرباط ـ «القدس العربي» : لم تعد الصحافة في المغرب، وحتى في العالم العربي مثلما عهدها أبناء جيل الورقي من المهنيين، الأزرار حولت كل شيء إلى مبني للمجهول في الشبكة العنكبوتية، واضطرت أعتى الصحف الورقية إلى مسايرة الموجة إن أرادت نصيبا من نقرات جمهور عريض غير صبور، يعرض عنك من أول كلمة لا تروق أنفاسه المتسارعة.



بقلم: عبد العزيز بنعبو

لكن في المغرب تبدو الأزمة أعمق من نقرات و»لايكات» ومتابعات على الإنترنت، فهي من جهة، تتجاذب حول أحقية الوجود الرقمي والورقي، وصراع قوانين ودعم عمومي وغيره من التفاصيل، التي تشكّل محور النقاش لدى فئة عريضة من المهنيين، ومن جهة أخرى، هي أزمة ناتجة عن وقوف الإعلام المغربي على عتبة تحول جذري في منظومات المؤسسات الإعلامية وبنياتها، وفي القيم الجديدة التي فرضتها وسائط التواصل الاجتماعي والتي أصبحت تهدد حرية الإعلام والقيم المهنية العتيدة التي تم ترسيخها.

وفي تقدير الإعلامي والكاتب عبد العزيز كوكاس صاحب تجربة تفوق ثلاثة عقود من الممارسة والخبرة، صحافيا ورئيس تحرير ومدير نشر، ومستشارا لتحرير جرائد مؤثرة وشمت الصحافة المغربية، ومدرسا في أكبر معهد صحافي في المغرب، «نحن على عتبة تحول درامي للصحافة، نعرف منطلقات بداياته، لكننا نجهل مساراته وحجم نهاياته وأثرها على مرآة المجتمع المعاصر».

ويقدم كوكاس متحدثا لـ»القدس العربي»، قراءة في مشهد إعلامي مغربي، يبدو مثل الأمواج المتلاطمة من التفاهة والإثارة، مقابل تشبث فئة من المهنيين بالأخلاق المهنية أولا، وبصيت الصحافة ثانيا ونزاهة الصحافيين ثالثا؛ مؤكدا أنه «اليوم أشبه بمحيط مترع بالأعاصير، أمواج من التناقض تتلاطم فيه: تيارات جادة تقاوم الغرق في مستنقع الابتذال، وأخرى ملوثة بالتفاهة والإثارة الرخيصة تحاول أن تجر كل شيء نحو قاع الانحطاط». ويستطرد الإعلامي والكاتب قائلا، «رغم هذا المد الجارف، ما تزال هناك بالتأكيد جزر مقاومة، فئة من الصحافيين الذين ما زالوا يتشبثون بأخلاقيات المهنة، يحمون شرف الصحافة بضميرهم المهني وإيمانهم برسالتها ويلوذون بشرف الكلمة ونبل الرسالة، متسلحين بما تبقى من ميثاق شرف مهني، على الرغم من ندرة الدعم الحقيقي للجودة، وغياب تقدير المجتمع لدور الصحافة كمؤسسة عقل نقدي لا مجرد أداة فرجة، مع زحف جارف لشبه إعلاميين يحولون المشهد إلى سوق عمومية مربحة للتفاهة، وخلق نماذج ناجحة في التحول الدرامي والانحطاط الإعلامي، لا على المستوى الوطني، بل الدولي عامة».

وفي رأي كوكاس، «هذا الانقسام الحاد هو في الواقع مرآة للاهتزاز العام الذي تعرفه منظومتنا الاجتماعية والقيمية، حيث تراجعت مكانة المهنية والجدية لصالح منطق (الفرجة السريعة)، وأصبح من يثير الجدل المجاني، يحصد أكثر مما يحصده من يشتغل بمهنية وصمت. إن الإعلام المغربي يوجد عند مفترق طرق خطير: إما أن يحتمي بشرعية الجودة وأخلاقيات العمل، أو ينجرف مع مدّ التفاهة الذي يُغرق السفينة الجماعية». حديث المشهد في شموليته، يجرنا إلى حديث الاختلاف بين اللسانين العربي والفرنكفوني، الأول في معمعة اليومي والثاني في معزل عن معارك الوقت الحالي، وبالنسبة لكوكاس فإن «الصحافة المغربية ليست كيانا واحدا، بل هي تعبير عن ازدواجية ثقافية عميقة يعيشها المغرب منذ عقود. هذه المفارقة ليست فقط مسألة لسان، بل تجسيد لطبقتين ثقافيتين تتقاسمان المجال العام المغربي».

ويوضح المتحدث أن «الصحافة الفرنكوفونية تخاطب نخبا محدودة العدد ومحددة الموقع، تتحرك في صالونات النخب العليا، تحتفظ بمسافة عن ضوضاء الشارع، وكأنها تؤدي طقسا محافظًا يخاطب دوائر ضيقة. أما الصحافة العربية فهي على تماس مباشر مع نبض الشارع، تنهشها تناقضاته اليومية، وتجد نفسها مطوقة بضغط الإثارة والتجاذب الجماهيري. إنها مفارقة مغربية بامتياز: جسد واحد برأسين ثقافيين مختلفين، كل منهما يواجه عواصفه بطريقته الخاصة». ويشدد كوكاس على أن «الأمر ليس اختلافا في اللغة، بل في خيارات سياسية وبنيات ثقافية ورثها المغرب عن المستعمر وعمّقها، لذلك ظلت الصحافة الفرنكوفونية موجهة للخارج، ولنخب الإدارة المغربية المتربعة على عرش القرار السياسي، وكان لها وضع اقتصادي مريح ومردودية كبرى من حصتها في الإشهار (الإعلانات التجارية)، فيما ظلت الصحافة العربية مرتبطة في معظمها بالأحزاب السياسية حتى منتصف التسعينيات، مع ظهور الصحافة الخاصة أو المستقلة».

ما يقال عن وضع الصحافة الناطقة بالعربية مقارنة مع نظيرتها الفرنكوفونية، يجوز أيضا على الممارسين المهنيين، والحديث هنا عن الوضع المادي والاجتماعي، ويؤكد كوكاس أن «المشهد هنا أكثر قسوة»، لأن «الصحافي الناطق بالعربية يشبه إلى حد بعيد المحارب المجهول: يعمل في ظروف صعبة بأجر زهيد، في منابر منهكة اقتصاديا وسياسيا. أما زميله الناطق بالفرنسية، فهو أقرب إلى موظف مقيم في منطقة آمنة، يحظى بمستوى اجتماعي أفضل، لأنه يخاطب جمهورا ميسورا، ونخبا اقتصادية متحكمة في مفاتيح الإعلان والدعم. الأمر في العمق ليس مجرد اختيار لغة، بل انخراط في منظومة اجتماعية غير متكافئة تحدد من هو القريب من دوائر الامتياز، ومن يبقى في هامش الكدح الإعلامي».

ويرجع الكاتب هذا التفاوت «إلى البنية الاقتصادية والثقافية للمنابر الإعلامية نفسها وإلى نوعية السوق التي يخاطبها كل طرف. فالصحافي الناطق بالفرنسية يشتغل ضمن منابر غالبا ما تكون ممولة من شبكات إعلانية قوية وشركات تبحث عن وضع معين. بالتالي، وضعه المادي والاجتماعي أفضل بكثير مما عليه صحافي اللسان العربي، الذي يشتغل في صحافة جماهيرية تعتمد على مداخيل أقل استقرارا، وأكثر عرضة لتقلبات المزاج السياسي والاقتصادي. كما أن هناك إهمالا تاريخيا لهيكلة هذا القطاع بالشكل الذي يحمي العاملين فيه اجتماعيا.. إنه انعكاس آخر لهرم المجتمع المغربي ذاته، حيث تفاوت الامتيازات والفرص حسب اللغة والطبقة والثقافة».

حديث الفوارق والرواتب يبدو ترفا نوعا ما، أمام قضية وجود تهم الصحافة الورقية بشقيها العربي والفرنكفوني التي باتت تقلق الكثير من المهنيين وهم يخافون موتها، لكن كوكاس يضع الأمر في سياقه العام بقوله «دعنا لا نصطنع بكائية على زمن لم يكن كاملا، حتى في أوج وهجها، لم تكن الصحافة الورقية المغربية تمثل عادة جماهيرية عميقة». وفي رأيه أن «الصحافة ظلت تقرأ في جيوب ضيقة: بين أسوار الجامعات، في الإدارات، داخل بعض النخب المدنية. أما الشعب العريض، فقد كانت علاقته بالصحافة خيطا رفيعا، لا وشائج قوية. لذلك فإن «انهيار الصحافة الورقية اليوم ليس سقوط شجرة وارفة، بل سقوط غصن كان ينمو فوق تربة ثقافية قاحلة أصلا. ينبغي ألا نخدع أنفسنا. حتى في (العصر الذهبي) للصحافة الورقية، لم تكن عادة القراءة متجذرة جماهيريا في المغرب. صحيح أن هناك مرحلة شهدت طفرة نسبية، ولكن سقف 240 ألف نسخة مبيعة يوميا، يبقى رقما متواضعا جدا إذا ما قورن بعدد السكان ونسب المتعلمين بينهم».

وعن السبب يقول كوكاس، إنه يحس «بأن المغرب مرّ من تقاليد الشفوي إلى تقاليد التقني/الإلكتروني، دون المرور بتقاليد المقروء، لقد كانت، في الحقيقة، مرحلة ضيقة تلك التي عرفت فيها الصحافة الورقية ازدهارا، لأن الصحافة المطبوعة كانت صحافة نخبة منذ بدايتها، جزء من النخبة المتعلمة في المغرب هو الذي كان يقرأ هذه الصحف، أما الباقي، وبسبب الأمية، فلم يكن يجد إلى المطبوع طريقا، يعني أن هناك ملايين المغاربة ظلوا محرومين من الصحافة الورقية، ومن المطبوعات بشكل عام على خلاف الرقمي اليوم. لم نرسخ بتاتا عادات القراءة والصحافة لم تصل بيوت حتى النخب المتعلمة».

وأبرز المتحدث أن غياب الأرقام والدراسات الإحصائيات، حول القراءة، لا يعني غياب الظاهرة، بل يعني ضعف وعي المؤسسات بأهمية قياس الظواهر الثقافية والاجتماعية بشكل علمي. وفي المقابل «يمكن الاستدلال بالعديد من المؤشرات النوعية: نسب الأمية المرتفعة، حجم مبيعات الكتب، عدد المكتبات التي تغلق أبوابها، كتب تتحول إلى ديكور منزلي لا أكثر.. كلها علامات تنذر بضعف ممارسة القراءة، دون حاجة إلى انتظار إحصاءات دقيقة.

وبالنسبة لكوكاس فقد «آن الأوان لتبحث الجرائد المطبوعة عن جنازة تليق بها في زمن الرقمنة والعمل عن بعد، وتقلص مساحة التعامل مع الورق في الإدارات وفي الحياة اليومية، فهذا هو المستقبل.. ومن يريد معاندة هذا الواقع المؤسف حقا، سيجد نفسه ينتج مُنتَجا لا يشتريه أحد، والاستنجاد بالدولة قد يؤجل الموت الوشيك لا غير، والحل الجذري يتجاوز تسوّل الدولة التي لها إكراهات أخطر من التفكير في دعم الصحافة الورقية إلى حين الأجل المحتوم فقط، بل يستدعي فتح نقاش حقيقي بإشراك المعلنين والوزارة الوصية، وكل من يتدخل في صناعة الصحافة الورقية بما فيها المطابع وشركات التوزيع، لقد كنا نسير بخطى حثيثة نحو نهاية المطبوعات، وظللنا فقط كمن يعتقد بوجود قوة قدرية يمكن أن تنقذ ما تبقى من أوفياء هذه الصحافة.. لكن منذ وباء كورونا، انتهى كل شيء وبشكل غير مسبوق وبيننا الأيام».

ويختصر الإعلامي مسافة الكلام بقوله «لقد سيطر العمالقة القادمون من وادي السليكون: غوغل، فيسبوك، تويتر ويوتيوب، على سوق إنتاج الأخبار وتسويقها واستقطاب الزوار والمشاهدين بالملايين، ومعها بدأوا يقتلون جزءا كبيرا من الصحافة المهنية. وفيما يشبه المرثية، يقول كوكاس إن «واقع الصحافة الورقية اليوم أسِمهُ بسِمة الاحتضار، إن الصحافيين الذين يعملون بالصحافة الورقية يعيشون وضعا صعبا مع ظهور الحامل الإلكتروني ليس في المغرب وحده، بل على المستوى الدولي، إنه قدر أعمى وأحمق الخطى، ذلك أن التطور الذي عرفته الوسائل التكنولوجية الحديثة ووسائط الاتصال الجماهيري، وشيوع الإنترنت التي وصلت إلى أبعد القرى في المغرب.. جعل المطبوع بشكل عام يشهد انتكاسا بينا لا تخطئه العين، وبالتالي يبدو لي أن مديري نشر الصحف الورقية والصحافيين العاملين فيها، مثل فرسان دونكيشوتيين، يريدون الموت بشرف في معركة يعرفون أنهم سينهزمون فيها حتما، والدليل وجود صحف عالمية عملاقة اضطرت إلى إغلاق جرائدها المطبوعة.. إنه قدر لا نستطيع أن نغالبه أبدا».

وفي رأيه فإن «معركة الإعلام اليوم ليست بين القديم والجديد، بل بين عمق الرسالة وسطحية المضمون، بين ضمير الإنسان وآلية الخوارزمية. والسؤال الذي يجب أن نطرحه بجرأة: هل ما نعيشه انفجار إعلامي؟ أم انهيار قيمي مقنّع ببهرج تقني؟»، لأن «ما يحدث ليس مجرد (مناحة)، بل تحوّل تاريخي حقيقي».

ويوضح كوكاس أنه «علينا أن نتجاوز ثنائية (البكاء على الماضي) و(الاحتفاء الأعمى بالحاضر)، وأن نبحث عن إعلام جديد: إعلام ذكي، قادر على الاستفادة من التقنية دون أن يفقد روحه النقدية والإنسانية».

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الجمعة 1 أغسطس/أوت 2025
في نفس الركن