بقلم : عدنان بنشقرون
ومع ذلك، سيظل هناك دائمًا من يتشبث بعبارة «نعم، ولكن…». فئة لا تكلف نفسها قراءة النصوص كاملة، ولا استيعاب المزاج السياسي الذي يرافق صدورها،إلا أن المؤشر الأهم اليوم أن الصحافة الدولية المعروفة بتحفظها تجاه المغرب، بل وحتى تلك التي اعتادت رؤية الملف بنظرة رمادية، أقرت صراحةً بحدوث تحول واضح ومسار دبلوماسي جديد.
منابر فرنسية حاولت التعبير بقدر من اللياقة، بينما اختارت الصحافة الأنغلوساكسونية الوضوح المباشر : انتهى زمن الجدل،لم يعد مشروع الحكم الذاتي مجرد طرح سياسي، بل أصبح أساسًا مرجعيًا معتمدًا، تتكرر الإشارة إليه في أدبيات الأمم المتحدة، أما فكرة الاستفتاء، ذلك الشعار الذي لوّح به لسنوات طويلة، فقد تلاشى بصمتٍ كشمعة انتهى وقتها.
لنتأمل العناوين الدولية، لوموند أفريك تحدثت عن «انتصار دبلوماسي»، وفرانس 24 أقرّت صراحةً بدعم للخطة المغربية، بينما وصفت RFI المرحلة الجديدة بـ«دينامية سياسية متقدمة»، الأكثر رمزية أن إلباييس الإسبانية قالت إن الأمم المتحدة «همّشت خيار الاستفتاء». كلمات ليست عابرة، بل تؤرخ لانتهاء مرحلة وبداية أخرى.
أما الصحافة الألمانية ققد رأت في القرار «منعطفًا تاريخيًا»، أما المنابر الإفريقية فاعتبرت ما حدث «تتويجًا لقيادة دبلوماسية مغربية» و«تحولًا جيوسياسيًا»، ومن منظور اقتصادي، الرسالة كانت أوضح : القرار يعزز ثقة المستثمرين ويدعم الاستقرار طويل الأمد. فالأسواق لا تستجيب للشعارات، بل للمعطيات الصلبة.
على الضفة المقابلة، بدت ردود الفعل الغاضبة في بعض الأوساط الجزائرية وفي صفوف قيادة البوليساريو أشبه بضجيجٍ يتلاشى عند أول تماس مع الحقائق الجديدة. لم يعد الجدل قانونيًا أو سياسيًا كما كان يُقدَّم لسنوات، بل تحول إلى رد فعل نفسي أمام واقع دولي لم يعد يقبل الالتفاف. فحين يُقر مجلس الأمن بأن مقترح الحكم الذاتي هو الخيار «الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق»، يكون قد وضع نقطة النهاية لمسار جدل امتد منذ عام 1975، وأغلق بابًا طال الوقوف عند عتبته.
أما داخل المغرب، فقد جاء التفاعل واثقًا وهادئًا في آن واحد؛ فاعتزازٌ مشروع لم يتجاوز حدود الرصانة، ووعيٌ بأن الانتصارات الدبلوماسية الكبرى لا تحتفل بالصخب بل تُستقبل بحس دولة. وهذا في حد ذاته دليل نضج سياسي واضح: لا مكان للمبالغة أو الانجرار وراء العواطف، بل تثمينٌ لعمل دبلوماسي راكم الخبرة والعلاقات والتحالفات على مدى عقدين. إن ما تحقق اليوم ليس ثمرة صدفة أو حركة ظرفية، بل نتيجة نهج ثابت، وتخطيط بعيد المدى، وممارسة دبلوماسية تقوم على البناء الهادئ لا على الانفعال الخطابي
ورغم وضوح المسار، ستظل بعض الأصوات تلوّح بـ«لكن…». ستتعالى في أركان المقاهي، وعلى شاشات الهواتف، وفي بعض المنابر خارج الحدود. غير أن هذا الصدى سيتضاءل تدريجيًا أمام ثقل الوقائع. فالتاريخ لا يصنعه التردد ولا تكتبه النقاشات الهامشية، بل تُرسِّخه الوثائق الرسمية، والقرارات الأممية، ومسارات الدول حين تُجمِع وتتحرك. وما تبقى خارج هذا الإطار هو مجرد صخب عابر، يذوب عند أول احتكاك بالحقيقة
الرسالة التي يحملها قرار مجلس الأمن لا تقف عند حدود السياسة، بل تمتد لتلامس طبيعة التحولات الدولية نفسها: للمستثمرين تأكيد بأن الأرضية صلبة والآفاق مفتوحة، وللعواصم بأن تموقعها بات واضح المعالم، ولمن راهن على الضبابية بأن مرحلة الالتباس قد طويت، وأن الاتجاه أصبح نهائيًا ومحدداً.
هكذا، جاء «الحكم النهائي» في صياغة مقتضبة وهادئة، لكنه محمّل بشرعية دولية لا تحتمل التأويل. فمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية لم تعد فكرة مطروحة للنقاش، بل إطارًا معتمدًا تبنى عليه القرارات وتتحرك وفقه السياسات. ومع هذا التتويج، تنطلق مرحلة أخرى عنوانها الفعل: تنزيل المشاريع، تعزيز التنمية، تعميق الاندماج الاجتماعي، وترسيخ الكرامة في الأقاليم الجنوبية.
والمغرب اليوم جاهز لهذا الفصل الجديد. أما الذين لا يزالون ممسكين بخيط «لكن»، فسيتركهم الزمن خلفه، لأن التاريخ لا يساير المترددين ولا يجامل المتخلفين عن التحولات الحاسمة. فالأحلام الواهنة تتلاشى أمام منطق الأحداث، والانتصارات التي تُبنى بصمت واستمرارية هي التي تدوم. هكذا تنتصر الدول: بالثبات، لا بالشعارات؛ وبالعمل المتدرج، لا بالضجيج العابر