كتاب الرأي

الجدية : مفتاح التدبير الجيد للسياسات العمومية


حمل خطاب العرش لهذه السنة رسائل قوية بدلالاتها المتعددة الأبعاد، بما فيها تذكير جلالة الملك بمفهوم الجدية المعروفة لدى المغاربة في عملهم؛ مؤكدا جلالته على ان المغرب في أمس الحاجة لهذه الجدية من أجل الارتقاء بالمسار التنموي، بعدما وصل إلى درجة من التقدم والنضج، إلى مرحلة جديدة وفتح آفاق أوسع من الأصلاحات والاورش الكبرى التي يستحقها المغاربة؛ معتبرا جلالته أن الجدية تشكل حافزا لتجاوز الصعوبات والاكراهات، ورفع التحديات، باعتبارها مفهوما متكاملا يشمل مجموعة من المذاهب العملية والقيم الإنسانية؛مشددا جلالته على أن الجدية يجب أن تظل المذهب في الحياة والعمل، وأن تشمل جميع المجالات في الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية وعالم الأعمال والاستثمار والإنتاج .



بقلم: لحسن بنساسي

وهذا يعني أنه، بقدر ما تشكل الجدية حافزا لتخطي الصعوبات والاكراهات التي تطرحها المرحلة وتحدياتها، بقدر ما تعتبر شرطا أساسيا لإنجاح اي إصلاح كيفما كانت طبيعته وتوجهاته واختياراته وأهدافه؛ بقدرما هي دعامة أساسية لتنفيذ المخططات والاستراتيجيات والبرامج المعتمدة، كيفما كان حجمها؛ بقدرما هي العمود المحوري لضمان التدبير العمومي الجيد والمحكم للسياسات العمومية والقطاعية والتسيير الفعال والناجع للشأن العام الوطني والجهوي والإقليمي والمحلي.
وهذا يعني أيضا أن روح الجدية يجب أن تكون حاضرة بقوة في أي تدبير عمومي خلال المرحلة الراهنة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية؛ بما تحمله من تحديات لمواجهتها بكل مسؤولية،بما تفرضه من رهانات ينبغي العمل بجدية لربحها  في ظل ظرفية داخلية لازالت تداعيات جائحة كورونا تلقي بظلالها عليها؛ ظرفية مطبوعة بالجفاف وآثارها المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد الوطني والحياة اليومية للمواطنين، مطبوعة بنذرة المياه وانعكاساتها السلبية على الأمن المائي، مطبوعة بالوضعية الاجتماعية الصعبة المتمثلة أساسا في ضعف القدرة الشرائية للأغلبية الساحقة من المواطنين، وارتفاع نسبة البطالة بشكل يؤرق الاسر المغربية و يدعو للقلق؛في ظل ظرفية دولية مطبوعة بالتوتر والصراعات والتقلبات، وما يعرفه المجتمع العالمي والعلاقات الدولية من وضع اللايقين .



وهذا يعني كذلك أن روح الجدية يجب أن تحضر بثقلها من أجل التنزيل السليم، وبالسرعة المطلوبة، لورش تعميم الحماية الاجتماعية وماسستها لتشمل جميع المواطنين، كما حدد مكوناته وخطة إنجازه، جلالة الملك ابتداء من تعميم التأمين الاجباري الأساسي عن المرض خلال سنتي 2021 -2022، يليه تعميم التعويضات العائلية خلال سنتي 2023 -2024، ثم توسيع قاعدة المنخرطين خلال سنة 2025 لتشمل الأشخاص الذين يمارسون عملا ولا يستفيدون من معاش؛ ثم تعميم الاستفادة من التعويض عن فقدان الشغل في أفق سنة 2025؛ وكذا إحداث "مدخول الكرامة "لفائدة الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 سنة فما فوق، ويعيشون ظروف هشاشة، ابتداء من مبلغ 400 درهم خلال سنة 2022، ليصل الى 1000 درهم في 2026 . 


يجب أن تحضر روح الجدية بقوة من أجل الإسراع بتنزيل إصلاح المنظومة الصحية كما حدد معالمها القانون الإطار المتعلق بالمنظومة الصحية الوطنية، بعدما تمت المصادقة على 8 نص تشريعي يدخل في هذا الإصلاح، من أجل توسيع عرض العلاجات وتحسين الخدمات الصحية وجعلها في مستوى تعميم التأمين الاجباري الأساسي عن المرض . 


يجب أن تحضر روح الجدية بقوة من أجل ضمان السيادة الاقتصادية وتحصينها، من خلال تعزيز الامن الاستراتيجي في المواد الأساسية الغذائية منها والطاقية والمائية والصحية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الواسعة الاستهلاك .

 
يجب أن تحضر روح الجدية بقوة من أجل تسريع وثيرة تنزيل مضامين القانون الإطار المتعلق بالتربية والتكوين والبحث العلمي والابتكار الذي لازال ينتظر إخراج النصوص التشريعية والتنظيمية المؤطرة لهذا الاصلاح . 


يجب أن تحضر روح الجدية بقوة من أجل الإسراع بتنفيذ الأصلاح الضريبي الذي جاء به القانون الإطار المتعلق بالاصلاح الجبائي، خاصة فيما يتعلق بتوسيع الوعاء الضريبي بهدف التخفيف من الثقل الضريبي الذي يعاني منه الأجراء بكل من القطاعين العام الخاص والمستهلك، أمام عدم إصلاح كل من الضريبة على الدخل والضريبية على القيمة المضافة، باعتبارهما تشكلان المصدر الأساسي للمداخيل الجبائية، كما كشف عن ذلك تقرير المجلس الأعلى للحسابات في تقريره الاخير برسم سنة 2021؛ في الوقت الذي التزمت فيه الحكومة بتخفيض الضغط على الأجراء حتى لا يظلوا ضحية هذا التوجه، في ظل تعثر تنزيل القانون الإطار المتعلق بالإصلاح الجبائي، من أجل إرساء نظام جبائي فعال ومنصف ومتوازن ومنتج، وذلك من خلال تكريس مبدأ حيادية الضريبة على القيمة المضافة، إعادة النظر في الجدول التصاعدي للضريبة على الدخل .



 يجب أن تحضر روح الجدية بقوة من أجل الإسراع بتنفيذ إصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية كما سطره القانون الإطار المتعلق بإصلاح هذا الورش الاستراتيجي، من خلال التنزيل التدريجي للقانون الإطار المتعلق بإصلاح هذا الورش الاستراتيجي، مادام العديد من النصوص التشريعية والتنظيمية المنصوص عليها في هذا القانون الاطار الكفيلة بتفعيل مضامينه، لم تتم المصادقة عليها بعد، علاوة على غياب خارطة طريق لعمليات إعادة هيكلتها وفق جدول زمني محدد، مما أدى إلى تراجع نتائجها المالية، وإضعاف مساهمتها في الإنعاش الاقتصادي، مما جعل الدولة تتدخل لدعمها، من خلال فتح اعتمادات مالية إضافية لصالحها، الأمر الذي يقتضي التعجيل بتسريع وتيرة هذا الإصلاح الاستراتيجي حتى تصبح هذه المؤسسات رافعة أساسية للتنمية وقاطرة للابتكار، بدل أن تظل في جلها عبءا ثقيلا على خزينة الدولة .



يجب أن تحضر روح الجدية بقوة من أجل التنزيل السليم للقانون الإطار بمثابة ميثاق الاستثمار الذي لازال يعرف بعض التعثر حتى يعطي دفعة قوية من حيث جاذبية المغرب للاستثمارات الوطنية والأجنبية، والنهوض بتنمية منصفة للمجال، ودعم إنعاش القطاعات الواعدة ذات الأولوية بالنسبة للاقتصاد الوطني؛ علاوة على التفعيل الأمثل لخارطة الطريق الاستراتيجية التي اعتمدتها الحكومة للفترة 2023-2026 من أجل تحسين مناخ الأعمال، وذلك من خلال تحديد الأولويات وخلق روابط الالتقائية بين القطاعات ووضع الآليات العملية للرصد والمواكبة والتقييم الدوري، بالنظر لما يتسم به الإطار المؤسساتي للاستثمار بتعدد المتدخلين، وتداخل نظام اختصاصاهم على الصعيد الوطني، أو الترابي، أو المحلي، أو القطاعي؛ علاوة على المعيقات التي لازالت تواجه التسهيلات الإدارية المرتبطة بمنظومة تشجيع الاستثمار . 



يجب أن تحضر روح الجدية بقوة من أجل استكمال إصلاح منظومة العدالة بعدما عرف تنزيله تعثرا لا مبرر له، مادام الأمر يتعلق بإخراج النصوص التشريعية المؤطرة المتبقاة لهذا الإصلاح، بما فيها أساسا القانون الجنائي، المسطرة الجنائية، المسطرة المدنية وغبرها، ولا يكلف ميزانية الدولة أي تكاليف مالية، بقدر ما يحتاج إلى الجدية في التعامل مع هذا الرهان الكبير، ملازمة لإرادة سياسة قوية قادرة على إيجاد الحلول الكفيلة بمعالجة الإشكالات المطروحة، والتغلب على الصعوبات والاكراهات التي تطرحها عملية الأصلاح الشامل . 



يجب أن تحضر روح الجدية بقوة من أجل تحقيق التوازن الاجتماعي المنشود، قوامه المواطنة الحقة المبنية على التلازم بين الحقوق والواجبات باعتباره الدعامة الأساسية لتسريع وتيرة بناء الدولة الاجتماعية التي دعا إليها جلالة الملك وجعلت منها الحكومة إحدى أولويات برنامجها؛ قوامه التوزيع العادل والمنصف للثروة يستفيد منها جميع المغاربة بعيدا عن الحلول المرحلية التي ابانت عن محدوديتها في معالجة الإشكالية الاجتماعية، وإعطاء البعد الاجتماعي مدلوله الدستوري الحقيقي وتحقيق العدالة الاجتماعية، كمدخل أساسي لتوطيد دعائم وأسس تكافؤ الفرص بين مختلف الفئات الاجتماعية، ومحاربة الفقر والقضاء على الفوارق الطبقية والتفاوتات المجالية، وتعزيز آليات التضامن الوطني التي دعا إليها جلالة الملك ،في أفق بناء مجتمع متضامن تسوده المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية و مقومات العيش الكريم .


 يجب أن تحضر روح الجدية بقوة من أجل تعزيز الرأسمال البشري وتثمينه وتنميته وتطوير مجالات عمله وتحديثها وتسهيل ولوجه لسوق الشغل وعالم الابتكار . 



وهذا يعني أخيرا أن روح الجدية، كمفهوم، كمذهب، كمبدأ، كثقافة، كممارسة، كسلوك، يجب أن تكون حاضرة بقوة في مراقبة أي تدبير للشأن العام ،وفي تقييم السياسات العمومية، من حيث مدى جدية الفاعل العمومي في التعامل مع الفعل العمومي، وحرصه الشديد على التنزيل والتنفيذ وتحقيق الأهداف المتوخاة على الوجه المطلوب؛ مادامت الجدية تشكل المفتاح الحقيقي لضمان التدبير الجيد للسياسات العمومية وتعزيز مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ورؤية خلاقة لبناء مغرب الغد الأفضل، مغرب الطموح و الاندماج والارتقاء الاجتماعي، مغرب التقدم والكرامة . 


 

سارة البوفي كاتبة وصحفية بالمؤسسة الإعلامية الرسالة… إعرف المزيد حول هذا الكاتب



الاثنين 7 أغسطس/أوت 2023
في نفس الركن