حين يتحدث مسؤول عن احترام القانون وهو أول من يخرقه، وحين يعتلي فنان منصةً ليتحدث عن القيم ثم ينزلق في التحقير أو التمييز، وحين يصبح الإعلام مجالًا للتحريض لا للتنوير، ينهار ما تبقى من رمزية القدوة. فلا الحملات الإشهارية تنفع، ولا دروس المواطنة المقررة في المناهج تجد طريقها إلى وعي الناشئة. المواطن المغربي لم يعد يقنعه الخطاب، بل ينتظر أن يرى تطابقًا بين الكلام والممارسة. يريد أن يلمح في المسؤول تواضعًا وعدلًا، وفي الإعلامي نزاهة، وفي الشرطي استقامة، وفي النخب السياسية التزامًا بقيم الصالح العام، لا اللهث خلف المصالح الشخصية.
الأمر لا يتعلق فقط بسلوكيات فردية، بل بخلل في البنية الثقافية والخطابية التي تحيط بمفهوم المواطنة. كثيرًا ما تُقدّم هذه الأخيرة في قالب جاف ومجرد، بعيد عن الواقع اليومي للمواطن. يُطلب منه أن يحافظ على نظافة الشارع، بينما تُغرق الأحياء في النفايات. يُطلب منه الانضباط في المرافق العمومية، بينما يرى الإفلات من العقاب يمر على شاشات الأخبار دون تفسير. تُوجه إليه خطابات عن التضحية والتعايش، بينما تُكرّس الممارسات اليومية ثقافة "نفْسِك أولًا" و"القانون على الضعفاء فقط".
وفي ظل هذا الغياب شبه الكامل للنماذج الملهمة، تغدو القيم مجرد شعارات، وتتحول المناشدة بالمواطنة إلى خطبة مملة، بل وربما مثيرة للسخرية. فالقدوة لا تُفرض من فوق، بل تُبنى من تحت، من تفاصيل الحياة اليومية، من التزام بسيط بقانون السير، من اعتذار علني عن خطأ، من مبدأ يُترجم إلى ممارسة. وإذا استمر هذا الانفصام، فإن الأجيال القادمة ستنشأ على قناعة خطيرة: أن القيم ليست إلا أدوات للضغط، وليست ممارسات تنبع من الإيمان العميق بالانتماء.
لكن إذا كان المواطن جزءًا من هذه المعادلة المعطوبة، فماذا عن الدولة؟ أليست هي الطرف الذي يفترض به أن يقود مشروع بناء المواطنة؟ الأرقام التي أوردتها الدراسة ذاتها تضع الدولة في موقع المساءلة، لا الإعفاء. إذ يرى 98% من المشاركين أن الجهود الرسمية لترسيخ قيم المواطنة غائبة أو غير كافية. وهي نسبة صادمة، لا لأن الرقم مرتفع فقط، بل لأنه يعبّر عن عمق الفجوة بين المواطن والدولة. فلا سياسة تربوية واضحة، ولا تواصل عمومي فعّال، ولا حضور ملموس لقيم المواطنة في السياسات العمومية.
حين تغيب التربية المدنية من المدارس، ويغيب النقاش الرصين من الإعلام، وتنحصر حملات التوعية في المناسبات، يصبح من الصعب الحديث عن مواطنة متجذرة. المواطن لا يُبنى بمراسيم ولا بشعارات، بل بسياسات عمومية تستهدفه كفاعل، لا كمتلقٍ أو كخطر محتمل. غياب هذه الرؤية المتكاملة يُشعر الناس بأنهم وحدهم في مواجهة فوضى يومية، وأن الدولة حاضرة في العقاب، غائبة في المرافقة.
الناس لا ترفض القوانين، بل تريد العدالة. لا ترفض التضامن، بل تطمح لحماية اجتماعية عادلة. لا ترفض الانضباط، بل تريد أن تراه في سلوك من يطالب به. ولعل التحدي اليوم لا يتمثل فقط في ما إذا كنا سننظم تظاهرة بحجم كأس العالم، بل في ما إذا كنا سنستثمر هذا الحدث في إعادة بناء علاقة متوازنة بين المواطن والدولة، بين الخطاب والممارسة، بين الشكل والمضمون. وإذا كان هناك رهان حقيقي، فهو ليس في الواجهة التي سنُظهرها للعالم، بل في العمق الذي سنبنيه لأنفسنا، كمجتمع يريد أن يعيش لا فقط أن يُشاهد